لم يكن ابن رشد معاصراً للامام الغزالي، فقد نشط بعد ثلاثة أرباع القرن من صدور كتاب (تهافت الفلسفة) للغزالي ولكن هذا لم يمنع من صدور كتاب ابن رشد (تهافت التهافت) ردا على كتاب الغزالي رغم هذه الفجوة الزمانية، والكتابان كانا يقفان على جهتين متناقضتين في تداول الموضوعات المطروحة على بساط الفكر الفلسفي انذاك، فالغرالي ارتاب في دوافع الفلسفة وشكك في أغراضها طالما كانت مستنسخة من محاور الفلسفة اليونانية التي اتهمها بالإلحاد لأنها استخدمت المحسوسات في التوجه إلى موضوعات روحانية متعالية، ليس بمقدور العقل أن يعالجها، وانتهى إلى الاعتقاد بان الاشتغال الفلسفي العقلاني سوف يفسد البشر، خصوصا في مواضيع مثل الحدوث والازلية، وفيما يتعلق بالصفات الإلهية، والماهية الإلهية والتنزيه والتجسيم وما إلى ذلك من الموضوعات الفلسفية الحساسة والشائعة آنذاك، ومع استمرار المناوشات بين التياريين لفترة طويلة إلى حد ما، ولكن الغلبة كانت في نهاية المطاف جانبت تيار الغزالي في الانتصار على المذهب العقلاني الذي تبناه ابن رشد، لان فكر الغزالي كان الأقرب في الحفاظ على مصالح الطبقات الحاكمة، طالما ان هذا المذهب يشكك في كل نشاط عقلاني فاعل، ويؤكد مبدأ الإتباع والتقليد بدلا من تفعيل العقل في التوجه إلى الظواهر، وظلت هاتان الحاضنتان تلازمان الفكر الفلسفي العربي وتوزعت بين مشرق عربي يعتد بمتبنيات الغرالي طاردا للفلسفة، ومغرب عربي يعتز بأنه وريث الفلسفة الرشدية، وربما هذا ما نلحظه في النشاط الفلسفي التوليدي عند المغاربة في العقود الزمنية الأخيرة، وثقافة الصوت الواحد الشعري الشائعة في المشرق، ولذلك نجد أن هذه الخريطة ظلت فاعلة وكامنة في اللا شعور الثقافي والسياسي كما يعتقد محمد عابد الجابري في كتابه نقد العقل السياسي العربي، وكتابه الآخر بنية العقل العربي، وبموضوع ذي صلة يستثمر (محمد عاد الجابري) مفهوم (اللاشعور السياسي) الذي يستمده من المفكر الفرنسي- روجا دوبريه-،، بشكلٍ يختلف إلى حدٍ ما عن الأخير لهذا المفهوم،، ذلك لان دوبريه كان يكتب وهو يفكر بالمجتمع الأوروبي المصنع الذي اصبح فيه العلاقات الاجتماعية التي من نوع العلاقات العشائرية والطائفية، تحتل مكاناً يقع خلف الموقع الذي تحتله العلاقات الاقتصادية المتطورة، علاقات الإنتاج، أما في المجتمعات العربية، قديماً وحديثاً فالأمر يكاد يكون بالعكس من ذلك تماماً، فالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والطائفي لا تزال تحتل موقعاً أساسياً وصريحاً في حياتنا السياسية، بينما العلاقات الاقتصادية، والعلاقات الإنتاجية، لا تهيمن على المجتمع إلا بصورة جزئية، لذلك فوظيفة اللاشعور السياسي في المجتمعات العربية هي إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والعشائري داخل المجتمع القديم منه والمعاصر، وهذا من الأهمية بمكان، ذلك لأن السياسة عندنا بدأت تمارس باسم الدين والقبيلة وما زالت إلى اليوم، ويلخص محمد عابد الجابري اثر الموروث المعرفي، المتشكل في الشعور اللا سياسي كما يلي (وهكذا، إذا كان النظام المعرفي هو جملة المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخيّة ما في بنيتها اللاشعورية، فإن المخيال الاجتماعي هو جملة من التصورات والرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للأيديولوجيا السياسية، في فترة تاريخيّة ما، ولدى جماعة اجتماعية منظمة بنيتها اللاشعورية على مدى أحقاب تاريخيّةبعيدة.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"