10 Mar
10Mar

ولادتي لم تكن فيها ، ولم أعش وطرا من شبابي على ضفاف نهرها او بين حقولها الخضر ، ولم يحدث أن مر جزء من شيخوختي بين مضايفها العامرة بكل ما هو أصيل ، ولم تربطني بأمكنتها الذاوية ذكريات من نوع ما ، أزورها في أوقات متباعدة قد يمتد بعضها لسنوات ، لكني في كل زيارة أشعر بفرح غامر يدب في أنحاء جسدي ، لا أعرف على وجه التحديد ما هو ؟، أفسره بغير اقتناع بنسبة الأوكسجين العالية التي توفرها بيئة معطرة برائحة العنبر ، ومرة أقول لا ، قد تنتقل جينات عشق الأمكنة بالوراثة ، كونها موطن الآباء والأجداد ، فترسبت حكايات بلا ملامح في ذاكراتي ، وما أن تحط قدماي في دروبها حتى أشعر اني غيري ، غير ذاك الذي أعرفه ، قد تستغربون ان قلت ، يحضرني من قاموس مفرداتها ما لم أستخدمه في كلامي عندما أكون خارجها . وأحيانا تراودني فكرة ان الأوطان ليست الأمكنة ، بل هم الناس ، فحيثما تملكك انتماء لهم ، تشعر ان هذا هو الوطن وغيره غربة ، لا أدري ، ربما يكون عشقا مختلفا ، وعبثا تبحث عن أسبابه .
ليس بالضرورة أن يكون العشق لامرأة ، بل قد يكون مكانا يحرك فيك مشاعر الوجد ، ألم يعشق الشاعر الفلسطيني محمود درويش بيروت ؟ ، وعندما ينطق أسمها تسمع همس المشاعر قبل رنين الحروف ، وقد تكون الحبيبة شجرة يغازلها صاحبها بأرق المشاعر صباح مساء ، ينظر الى أغصانها كيف تنمو ، والى بريق ثمارها كيف يلمع تحت خيوط الشمس ، صدقوني : لقد مرض صديقي لموت شجرة غرسها في حديقة منزله ، وعندما عجبت لحاله قال : كنت أذرع طولها بمشاعري . ألم تتسرب اليكم أحزان شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب وهو يوثق لنهره الحبيب ( بويب ) ، حتى بلغ عشقه أصقاع الدنيا ؟، فصار الناس متشوقين لرؤية بويب ، مع انه نهر صغير ومثله العشرات في بلادنا وغيرها .
هكذا هي حالي مع ( المهناوية ) الناحية التي مازالت قرية بكل معانيها وان بُنيت بعض أجزائها بالاسمنت والطابوق ، وان عُبدت بعض شوارعها بعد طول انتظار دام عقود ، ومع ذلك لم يتغير شكلها ، فقد رأيتها بهذه الحال منذ أكثر من خمسين عاما عندما اصطحبتني والدتي لزيارة بعض الأقرباء ، حينها كنت طالبا في السادس الابتدائي ، وقد تعاقبت عليها حكومات ملكية وصفها الكارهون بالرجعية والمحبون بالناضجة المستقرة ، وأخرى جمهورية نعتها عشاقها بالتقدمية وأعداؤها بالدكتاتورية المقيتة ، وانتهى المآل الى من يرى في نفسه وكيل الله في أرضه ، الا ان المهناوية مازال وجهها متربا ، وأقدامها متشققة ، وشفاهها متيبسة فرط القهر ، وظهرها محنيا من أسواط الظلم ، ومع كل هذا الحزن الذي يلفها ظلت حضنا دافئا لأبنائها ، ووجها باسما لعشاقها ، ومضيفا بلا أبواب لضيوفها .
ما يشدني اليها تشربها بالأصيل من القيم ، والنبيل من العادات ، والسامي من الأعراف ، بطبعي أعشق المجتمعات القيمية ، وتميل نفسي الى ما هو معنوي ، وتنبذ ما هو مادي ، ذلك ان الحياة تفقد معانيها اللذيذة بلا قيم ، بدلالة ان حياة الغرب فاقدة للمعنى بالرغم من استقرار الحياة ورفاهية العيش ، ولكن ما يحزنني في هذه المنطقة وأمثالها أمراضها الاجتماعية التي خلفها العوز والظلم والقهر والعزلة ، وما أفرزه ذلك من عادات وأعراف بالية ، نخرت في جسد مجتمعها ، وأوقعت من الحوادث ما يستعصي محوه من الذاكرة .
تذكرني هذه الحسناء بكل ادعاءات الأنظمة حول التغيير الاجتماعي الذي لم يبدأوه أصلا ، لذا لم يتغير من حالها سوى تلك التي غيرها الزمان وليس الحكومات ، وهو تغيير بطيىء لم يرتق بها ، فتخلفت ، ومع ذلك يعيبون عليها تخلفها مع انهم أسباب التخلف . عذرا ، لا أظن أحجاري البيضاء ستحرك الراكد من المياه ، او تلفت عين التفاهة لجمال الأشياء  .


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة