عندما كنا طلابا في المرحلة الأولية من الدراسة الجامعية شكلت متابعة الفعاليات التي تشهدها الساحتين الثقافية والفنية كالمعارض التشكيلية والعروض المسرحية والموسيقية والمحاضرات العلمية جزءا حيويا من اهتمامنا ، نتعرف اليها بما يتاح من قنوات اتصالية كوسائل الاعلام المحدودة حينذاك ، والاتصالات الشخصية ، وما يتوافر من مطويات وملصقات . ينتابنا حرص شديد على حضور هذه الأنشطة والافادة مما يطرح فيها من أفكار ، والتعرف الى الشخصيات التي تمثل النخبة العراقية ، اذ كان من بين الانجازات اللقاء بها ، وتوثيقه بالصور للافتخار والتباهي ، ففي جانب منها تعني انك أصبحت من بين المهمين بدلالة وجودك بينهم ، او هكذا نتصور ، وكثيرا ما نتبنى طروحاتها في الحوارات التي تجري بيننا نحن الطلبة ، فما يُطرح كان جديدا على ثقافتنا ، وشكل تحولا في طريقة تفكيرنا . واليوم تعقد العديد من الفعاليات وفي أماكن بعضها أفضل بكثير من التي عقدت فيها القديمة ، لكن الجمهور الذي يحضرها محدود جدا ، وبعضه يُعد على أصابع اليد ، او يقتصر على أعضاء الجهة المنظمة ، الأمر الذي يحرج المنظمين والشخصيات المشاركة في تلك الفعاليات . بعض الجهات ممن لا سلطة لها تستجدي الجمهور استجداء بطرق مخجلة وبائسة ، او بتأثير العلاقات الشخصية ، او احراج الأصدقاء ، ما يضطرهم للحضور ، ويندر أن يكون للدوافع الثقافية حضورا ، اما تلك التي لديها سلطة كالمؤسسات فإنها تُجبر منتسبيها على حضور فعالياتها مع ان غالبيتهم لا يرغبون بالحضور ، كما هي الحال في الجامعات والدوائر الحكومية . تخيل ما الذي يراودك عندما يطلب منك القاء محاضرة وتفاجأ بأن الجمهور حضر قسرا ، ومحاضرتك لا تعنيهم بشيء ، او لا يتوافرون على مؤهلات تتناسب مع طبيعة مضمون محاضرتك . مرة دعتني جهة معينة للحديث عن موضوع علمي ، واذا جل الحضور من مستويات ثقافية متدنية ، ومنهم من لا يجيد حتى القراءة والكتابة ، بينما المحاضرة تنطوي على الكثير من المفاهيم التي يتعذر عليهم استيعابها مهما بسطها وعرضتها بالصورة التي تتناسب مع امكانياتهم ، يشعرك ذلك وانت على منصة الحديث انك تتحدث لفراغ ، ولولا الاحراج ما تحدثت ، الجهات المنظمة لا تخبرك مسبقا بطبيعة جمهورها ، فلا تدري ما المستوى الذي يفترض أن يكون عليه عرض محاضرتك . صار عدم الحضور الطوعي للفعاليات مشكلة معقدة ، ولو كان الأمر بيد الجهة المنظمة لما نظمتها ، لكنها مضطرة للاستجابة لتوجيهات الجهات العليا التي تنتسب لها والتي توصي بضرورة عقد الندوات والورش والحلقات النقاشية والمحاضرات والمؤتمرات ، طبعا لا نناقش أهمية هذه الفعاليات ، فهي ضرورية لجميع أطرافها ، اذ تأتي بهدف الإثراء الثقافي ، والتحفيز على التفكير ، ومناقشة الحلول المقترحة للمشكلات والظواهر التي يتعرض لها المجتمع ، وربط المجتمع بمتغيرات الواقع ، ولكن كيف نجعل من هذه الأنشطة جاذبة ؟ هذا هو السؤال . وازاء عدم اهتمام الجمهور بهذه الفعاليات ، ومطالبة الجهات العليا بتنظيمها ، لذلك غالبا ما تكون شكلية او حتى وهمية ، حيث تلتقط الصور من زوايا بعينها وترسل الى الجهات العليا لتأكيد انعقادها ، ولو أجرينا حسابا للفعاليات التي ننظمها سنويا لملأت مجلدات ، ولكن ما الذي خلفته هذه الفعاليات ؟ ، أي ما هي التأثيرات ، وهل كان لها انعكاس في الواقع ، في ثقافة الأفراد وسلوكهم ؟، وهذا هو السؤال الثاني . ما يجري ليس حالة ، بل ظاهرة تنطوي على أبعاد خطيرة ، وتشكل تحديا كبيرا لمسيرة العمل العلمي والثقافي ، وانعكاساتها السلبية تطول الجمهور والوسط الثقافي على حد سواء . اذ يقف الفنان او الاستاذ محبطا لأنه يخاطب جمهورا لا يقدر حصيلته ، ولا يقيم اعتبارا لشخصه او وزنا لإبداعه ، تراوده بعض الأفكار غير المقبولة بأنه اختار الطريق الخطأ ، وما كان عليه أن يسلكه ، ويفني فيه سني عمره . بالتأكيد الأجوبة شتى للسؤال الثالث الذي يقول لماذا هذا الاحجام عن حضور فعاليات نوعية ، لعل في مقدمتها هو الشعور بعدم جدوى الثقافة . jwhj1963@yahoo.com
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"