هذه قراءةٌ أوليةٌ لحربٍ ما زالت في بدايتها، يجد فيها القارئ أسئلةً أكثر من الأجوبة. وهي قراءةٌ لا تنطلق من العواطف والأمنيات، بقدر ما تحاول أن تستند إلى تحليل السياسات وتقدير المواقف، في محاولةٍ قد تصيبُ أو تخطئ لمعرفة السيناريوهات المتوقّعة واحتمالات تحقّقها. في إسرائيل، هُدرت الكرامة الوطنية، ومسّ الشعور بالهزيمة والهوان مجتمع المستوطنين بأسره، وهو أمرٌ تجاوز "التقصير" الذي حدث في حرب أكتوبر 1973، وأدّى لاحقاً إلى تغيّر في المشهد السياسي الإسرائيلي. وهنا تبدأ معضلة رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الأولى، فهو مضطرٌّ لاتخاذ إجراءاتٍ مغامرة وخطرة تتجاوز المتوقّع، في محاولة لاستعادة مشهد الردع الإسرائيلي. الهدف المعلن معاقبة حركة حماس وإلحاق هزيمة بها، لكنه قد يتجاوز ذلك إلى السعي لتحقيق متغيّرات إقليمية تساهم في رسم سياسات جديدة على مستوى المنطقة.وصف وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، عملية طوفان الأقصى بأنها تتجاوز بعشرة أضعاف ما حدث في نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 (في إشارة إلى حجم الخسائر قياساً بعدد السكان). وحشدت الولايات المتحدة تأييداً غربياً غير مسبوق للكيان الصهيوني، وهدّدت بالتدخل المباشر في مجريات المعركة إذا ما تدخلّت دول (إيران) أو منظمات (حزب الله)، ومارست الإرهاب والابتزاز على النظام العربي الرسمي، ودعته إلى محاربة "حماس" التي وصفتها بأنها "داعش". باختصار، حاولت الولايات المتحدة انتشال إسرائيل من انهيارها، وأعطتها الضوء الأخضر لعملية عسكرية واسعة وطويلة الأمد ضد الفلسطينيين.أعلن نتنياهو حالة الحرب، وشكّل حكومة طوارئ، واستدعى 360 ألف جندي إضافي من الاحتياط، ليتجاوز تعداد الجيش 530 ألف ضابط وجندي، وقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عن أهالي قطاع غزّة، ودعاهم إلى النزوح باتجاه سيناء، وحشد قواته على حدود غزّة التي تعرّضت لقصف همجي لم تشهد له مثيلاً من قبل، بدا كأنه قصفٌ تمهيدي لاجتياح قادم بات من المؤكّد حدوثه، ولا تزال أسئلة تدور حول مداه، وهل يبدأ باحتلال شريطٍ ضيّقٍ في المناطق المفتوحة بين السياج الحدودي والمناطق المبنيّة، من دون التوغّل فيها، مع محاولة التقّدم في المناطق المدمّرة، ومواصلة الحصار والقصف، محاولاً فرض شروطه، بنموذجٍ يشبه ما حدث في حصار بيروت عام 1982، وهي عملية تحتاج أسابيع، وربما أشهر، لتنفيذها. وخلال الحرب قد نشهد محاولاتٍ لتحقيق خرقٍ عبر اندفاعة سريعة في نقاطٍ ضيّقة بين السياج والساحل، لإحداث جيبٍ يقسم قطاع غزّة إلى قسمين.
احتمالات الاجتياح الكامل لقطاع غزّة، وإعادة احتلال القطاع أو أجزاء كبيرة منه، تزداد يوماً بعد يوم، وقد تأتي استكمالاً لما سبق ضمن مراحل متدرّجة، يعزّز ذلك التدمير الممنهج لأحياء كاملة، والدعوات إلى تهجير عدد كبير يتجاوز مئات الآلاف من سكّان القطاع إلى خارجه، وتحميل مصر مسؤولية حياة الفلسطينيين إن لم تسمح بخروجهم إلى سيناء. يثير هذا الاحتمال أسئلة أخرى، مثل ماذا ستفعل إسرائيل بالقطاع بعد ذلك؟ هل ستنسحب منه وتسلّمه إلى سلطة رام الله؟ أم تقيم على أطرافه حزاماً أمنياً إضافياً؟ أم تعيد احتلاله؟ هذه سيناريوهاتٌ متخيّلة تُتداول في الجانب الإسرائيلي، لكن ما يرسمونه ليس قدراً، والحرب لن تكون نزهة للجيش الإسرائيلي الذي سيُمنى بخسائر فادحة تزداد كلما حاول التوغّل بين الأزقة والحارات، على الرغم من قدراته النارية الهائلة التي ستصبّ حممها على المدنيين بشكل رئيس، وستكون المعركة طويلة وقاسية، والنصر فيها لمن صبر، إذ يصعب على الحكومة الإسرائيلية شلّ البلاد كلها أسابيع وأشهر. في فلسطين ثمّة جبهتان إضافيتان مرشّحتان للاشتعال: الأولى في الضفة الغربية التي بدأت حراكها، على الرغم من تحذيرات بلينكن للرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، بضرورة بقاء الضفة هادئة، والتعاون مع الجيش الإسرائيلي لتحقيق ذلك، وتلميحه إلى أن القضية الفلسطينية سيُعاد بحثها بعد انتهاء الحرب، تماماً كما هي وعود المبعوث الأميركي فيليب حبيب إلى ياسر عرفات خلال حصار بيروت (1982). قد تشتعل في الضفة الغربية مواجهاتٌ كبرى بين المستوطنين والفلسطينيين، وسيحاول الجيش الإسرائيلي تصفية بؤر المقاومة فيها، وقد يلجأ إلى اجتياح الضفة. أما داخل الخط الأخضر، فتحاول قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية قمع الحركة الوطنية وتدجينها، للحيلولة دون حدوث هبّاتٍ جماهيرية، مستغلّة قانون الطوارئ الذي يسمح لها بالاعتقال من دون محاكمة، ويمنع التجمّعات، ويعيد أجواء فلسطين إلى مرحلة الحكم العسكري الفاشي بعد نكبة عام 1948.
قتل آلاف الفلسطينيين المدنيين، واجتياح غزة، مهما كان مداهُما، لن يكفيا لغسل عار نتنياهو وحكومته. ما يحتاجه نتنياهو والكيان الصهيوني أكثر من ذلك، الهدف الرئيس أن تعود إسرائيل قوة ردع في المنطقة، بعد أن فقدتها على يد مقاتلي كتائب عز الدين القسام. ولن يتحقّق هذا ما لم يتوسّع نطاق المعركة في مغامرة قد لا تتمتّع برضا الولايات المتحدة التي أطلقت يد نتنياهو في توجيه ضرباتٍ في فلسطين، وهدّدت بالتدخّل ما إذا تدخّلت أطرافٌ خارجية في الحرب، لكنّ هذا قد لا يشمل المبادرات الإسرائيلية في هذا الاتجاه. إذ يبقى توسيع نطاق الحرب لاعتباراتٍ إسرائيلية داخلية، ولاستعادة مكانتها الإقليمية التي تهشّمت أمراً مطروحاً، إن لم يكن في الجبهات كلها، ففي واحدة على الأقل.الجبهة الأولى المرشّحة لذلك هي الجبهة الشمالية، على الحدود اللبنانية، حيث يُرابط حزب الله. وهي جبهة تشهد منذ بدء "طوفان الأقصى"، توتراً متصاعداً، واشتباكات يومية محدودة بين الحزب (أو مجموعاتٌ أخرى منحها ضوءاً أخضر) والقوات الإسرائيلية، وهي اشتباكاتٌ بمنزلة رسائل، يحذّر بعضها الإسرائيليين من تجاوز مدى محدّد في الردّ على "طوفان الأقصى"، وقد تسرّبت أنباء عن أن مثل هذه الرسالة قد وُجّهت عبر المصريين. ومن جهة أخرى، هي رسالة إلى أنصاره أن الحزب ومحور المقاومة ليس بعيديْن عما يجري. لحزب الله حساباته في دخول المعركة، يتعلّق بعضها بالمعادلة اللبنانية الداخلية، وسعيه إلى المحافظة على إنجازاته التي تحقّقت فيها، لكنه قد يجد، في ضوء تطوّر الأحداث، أن الرسائل لم تعد تكفي، فإما أن يفقد صدقيّته لدى جمهوره إن لم يشارك في الحرب بشكل مباشر، أو أن يثبتها. حالياً، ثمّة ردّات فعل محسوبة بدقة يتبادلها الجيش الإسرائيلي وحزب الله، وثمّة احتمال بأن تُكرّس المعادلة القائمة حالياً، ويمنع تحوّلها إلى حرب شاملة، لكن لا توجد ضمانات لاستمرارها على هذه الوتيرة، وقرار إشعال الحرب يملكه الطرفان، والشرارة التي تشعل سهلاً متاحة وقد تندلع في أي لحظة، ولا بد من إدراك وجود مصلحة إسرائيلية في توجيه ضربة استباقية إلى حزب الله، فهي تضمن بذلك تحييد جزءٍ من قدراته القتالية مسبقاً، كما تؤثّر، حال نجاحها، في إضعاف الحزب في المعادلة السياسية الداخلية في لبنان... معركة ليست سهلة، ومغامرة قد لا يجني منها نتنياهو سوى خسارة مضاعفة.
الاحتمال الثاني، أن يوجّه الجيش الإسرائيلي، وقد عبّأ قواه وحصّن جبهته الداخلية، واستعدّ لتلقي ضرباتٍ صاروخية من مصادر متعددة، مستفيداً من التعزيزات الأميركية، ضربة عسكرية إلى إيران تستهدف منشآتها النووية. نتنياهو وكذلك غانتس لا يتفقان مع سياسة بايدن تجاه إيران، ولا عن تطبيعه التدريجي للعلاقات معها، على الرغم من عدم التوصل إلى اتفاق نهائي، خشية ألّا يمرّره الكونغرس، وقد يجد في ظروف الحرب وبلوغ الاستعدادات الإسرائيلية مداها، خصوصاً على الجبهة الداخلية، فرصة لتحقيق ذلك، على الرغم من معارضة الولايات المتحدة، وهو قادر على إيجاد مبررات وذرائع لهذا الهجوم الذي سيعيد له شيئاً من اعتباره. ثمّة هدف ثالث يتمثل في ضربة شاملة للقواعد الإيرانية وقواعد حزب الله في سورية المستباحة سماؤها للطيران الإسرائيلي منذ أعوام من دون أي رادع، وهو عمل قد توافق عليه الولايات المتحدة، بل قد تشجّعه أيضاً. وثمة ترابطٌ بين هذه الأهداف الثلاثة، وقد يؤدّي الاشتباك في أحدها تلقائياً إلى الاشتباك في المناطق الأخرى. ولعل هذا ما دفع الولايات المتحدة إلى تسيير قطار جوي لنقل الأسلحة والذخائر، وتحريك حاملة الطائرات الأميركية "جيرالد فورد" بالقرب من الساحل الفلسطيني، وإرسال خبراء وفنّيين، تحسباً لتوسع المعارك.ما بعد "طوفان الأقصى" ليس كما قبلها، وهذه الحرب، على الرغم من ضراوتها وقسوتها، سترسم ملامح جديدة للمنطقة، وبعضها تحقّق، منذ لحظاتها الأولى، ولعل هذا ما تتفق عليه الأطراف كلها. من المؤكّد أن لا خيار فيها للفلسطينيين إلّا الصمود والقتال، لرسم ملامح الحرية والعدالة لفلسطين، ولا خيار للشعوب العربية إلّا الوقوف بجانب إخوانهم، وهو خيار كلّ من يقف ضد الاحتلال ونظام الأبارتهايد في العالم كله.