يقال ان “السياسي الذي يبحث عن الأضواء و الإستعراض ينتظر وقوع الأزمات او يصطنعها ،ليظهر بالصورة على انه المنقذ وصاحب الانجاز “ويظهر من ينطبق عليهم الوصف جليا عبر تاريخ العراق الحديث والمعاصر بشكل عام ،فبعضهم يجنح لتبني خطابات الثورية وخلاص الامة والانتصار للفقراء ،والتواضع الكاذب ،فضلا عن النفاق السياسي والتغيير اللحظي للمواقف ،و لعل هذه المدعيات هي الاكثر ارواجا ،كما ان لها مصاديق كثيرة وباوجه عدة تنتهي لنفس النتيجة .
ان محاولة الاستثمار في الازمات التي ينتهجها البعض بتقمصهم دور البطل المنفوخ ،ومحاولاتهم التملص من المسؤولية وتنزيه الفعل ادت لتراجع دور العراق الذي ارتكبت بحقه وحق شعبه مخالفات واخطاء جسيمة كلفته ارضه ومياهه ،كما كلفته الانتقاص من دوره المفترض والذي ينبغي ان يكون محوريا قياسا بحجمه وامكانياته المادية والبشرية .
اصل الموضوع الذي نحن بصدده هو زيارة وزير الخارجية الكويتي لبغداد وما تلاها ، والتي اظهرت كالعادة ميولا من هذا النوع لدى هولاء ،حيث حاول البعض استغلال هذه الزيارة لاثارة الازمات بقصد وبغيره ،فبدل التركيز في مدلولاتها ،عكفوا على الخوض بتفاصيل اخرى قد يكون اثارتها مقصود ،مطلقين العنان لخطابات عنترية ممجوجة ، والحق ان ما يفهم من هذ الزيارة وتوقيتها امر اخر ،كونها ذات ابعاد و دلالات مختلفة و تخفي اكثر مما تظهر ،وقد كان ظاهرها اثارة ملف ترسيم الحدود بين البلدين والتأكيد عليها وفق مخرجات القرار رقم 833 الصادر عن مجلس الأمن الدولي لسنة 1993، وللحديث عن الامر وحيثياته فلابد ان نعود الى الوراء لنكشف عن المسؤول ونبين الدور الذي يؤديه هولاء بالطريقة القرقوزية التي اشرنا اليها ، كون ملف ترسيم الحدود العراقية الكويتية بهذه الطريقة المجحفة التي يراها العراقيين اليوم ، والتي لا يمكن لوم احد في منظومة الحكم الحالية عليها لأن المتسبب الرئيسي فيها هو صدام ونظامه ،حيث احدث فوضى كبيرة طالت ارتداتها العراق قبل اي بلد اخر ،بينها ترسيم الحدود الذي جرى باشراف اممي ضمن جملة قرارات اعقبت غزوه للكويت في 2 أب – اغسطس العام 1990، ثم انسحابه منها ومسلسل سرد الاحداث يطول ومعه الويلات التي جرها ذلك النظام الجبان على العراقيين جميعا ،والذي كان اداة لتنفيذ مشاريع الدول الكبرى ،فالنظام السابق المهزوم بتوقيعه اتفاق الهزيمة امام التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الاميركية في خيمة سفوان العام 1991،فتح الباب مشرعا امام الاطماع الكويتية التي افضت لتشكيل لجان اممية اشرفت على اقتطاع اجزاء كبيرة من الاراضي والمياه العراقية والتضييق على الموانئ ، الانكى من ذلك ان هذه اللجان التي باشرت اعمالها العام 1993 لم يكن فيها شخص واحد يمثل وجهة النظر العراقية انذاك ،وبعد انتهاء اعمال تلك اللجان المنحازة وخبرائها المنتدبين من الامم المتحدة ،حصلت الكويت على أكثر من 85 مزرعة من المزارع المتاخمة للمنطقة الحدودية والتي لم تكن بهذا الوضع قبل العام المذكور ، ،وليت الامور توقفت عند هذا الحد بل امتدت ليصدر ( حامي البوابة الشرقية المهزوم ) بيانا يعلن فيه موافقة العراق على هذا الترسيم العام 1994 ، مع كل ما لحق بالعراق من حيف ، لتصبح هذه الحدود رسمية وتثبت دعاماتها وتكون واقعا وبقرارات ملزمة لايمكن لأي حكومة تجاوزها الا بعد ان تخوض معركة قانونية طويلة تتطلب توفر مخططات ووثائق وخرائط تثبت الحق العراقي و قد يكون ذلك ممكنا ،لو اعترض العراق وقتها و حظي بتأييد ودعم من البلدان المحتلة التي اعترفت باستقلال الكويت في ستينيات القرن الماضي والمقصود هنا ( بريطانيا ) التي تمتلك كما كبيرا من الوثائق تستطيع خلالها قطعا اثبات هذا الحق للعراق .
اذن نحن امام واقع صعب ومعقد لا يمكن تجاهله ،ولاتتحمل الحكومات التي تلت سقوط نظام البعث الخائن بعد العام 2003 ايا من تبعاته ،و ان اي محاولة لتبييض صفحة ذلك النظام لن تغير تلك الحقيقة الصارخة ،فمهما قيل ويقال فلن تبرئ ساحة اولئك الخونة ومن يحاول اليوم تبييض صفحتهم السوداء ، والذي ادى لما نعانيه اليوم ونعيشه من تبعات ، ومنها محاولات استثمار في ازمة مصطنعة ،والتي تعتبر استثمارا مضحكا مكشوف الغايات ،لانه لا يقدم ولا يؤخر شيئا ،ومن يتقولون به انما يخادعون الشعب العراقي ويحاولون تجهيله بهذه الطريقة المفضوحة ، وهي محاولة تخوين رخيصة للنظام السياسي الحالي .
ان كل ما يجري تغطيته وحرف مساراته ، انما يكشف ويؤكد خبث وجبن مبتدعيه على حساب الحقيقة لأن الغايات الحقيقة لهذه الزيارة والاثارات التي رافقتها فضلا عن ردود الافعال السياسية المكذوبة مقصودة في مجملها ،واحداث هذا التأثير في الشارع له اهداف لم يدركها الكثيرين بعد ،و يمكن اختصارها بمحاولة الكويت الضغط على الحكومة العراقية لاحراجها داخليا ،و ربما تكون قد اشترت ولاء البعض للصراخ بهذا الشكل الهستيري لخلق المزيد من الاحتقان الشعبي ، وما نراه ويراه غيرنا من اصحاب الوعي ان اهداف الزيارة الحقيقية الخفية هي جس نبض الرأي العام ،في محاولة يمكن اعتبارها استباقية يراد من ورائها مصادرة حقوق العراق ومنعه من المطالبة بحقه في حقل الدرة ( آرش ) الغازي لأن السواحل العراقية قريبة بما يكفي لفرض واقع الشريك في هذا الحقل الغازي العملاق الذي تتنازع السيادة عليه كلا من الكويت وايران ، فزيارة وزير الخارجية الكويتي وكل ما تلاها من صخب يؤكد دون ادنى شك المخاوف الكويتية من مطالبات متوقعة من قبل بغداد ، لحق لا يمكن ان ينازعها عليه احد ،ولعل الاعلان الكويتي الذي يحاول فرض السعودية شريكا اقتصاديا في هذا الحقل قبالة ايران وتجاهل الحق العراقي عمدا يشير لعدم احترام مقصود ،فضلا عن خطر داهم يهدد منطقة العراق الاقتصادية في مياه الخليج مستقبلا ويقطع الطريق على ميناء الفاو الذي كان حلا بعد محاولة خنق العراق بعد ترسيم المسارات الملاحية في خور عبد الله ،كما تؤشر الزيارة أهمية ان لا تغفل الحكومة العراقية ما يدور حولها على الساحة الاقليمية من تطورات هي معنية بها ،لضمان مصالح الشعب العراقي واجياله ،حيث لا يمكن ابدا التفريط بهذه المصالح كما حدث في حالة النظام الصدامي المجرم ،الذي ضيع حق العراق وشعبه عبر حماقاته وحروبه العبثية الخائبة .
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *