الميناء الأمريكي في غزّة، والذي يُوصف تمويهاً بالعائم، وتزييفاً بالإنساني.. هو إعادة إنتاج عصرية لإحدى أقدم الخدع الحربية في التاريخ، وربما أسخفها وأكثرها استخفافاً بالعقول: حصان طروادة! إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة لا يحتاج إلى ميناء أولاً، ولا يحتاج إلى ميناء بمثل مواصفات الميناء الذي يُبنى ثانياً، ولا يحتاج إلى كلّ هذا التحشيد العسكري ثالثاً! الميناء هو محاولة من “رأس الحيّة” أمريكا استنساخ تجربتها الشيطانية شرق الفرات في سوريا، وإيجاد ذريعة لإقامة قاعدة عسكرية أمريكية في غزّة، وتسويغ وشرعنة الاحتلال الأمريكي المباشر للقطاع. وكما في حالة شرق الفرات، فإنّ للميناء/ القاعدة الأمريكية في غزّة العديد من الأهداف والغايات على المدى القريب والمتوسط والبعيد.. ولكن لعل أهم ثلاث غايات يمكن أن نستشفّها في السياق الحالي هي: ـ أولاً: السيطرة على غاز غزّة وشرق المتوسط، وتأمين امتيازات وعقود التنقيب والاستخراج التي تمّ منحها بالفعل إلى شركات وكيانات غربية حتى ما قبل “طوفان الأقصى”. ـ ثانياً: دق أسفين أو “خازوق” في القلب من مشاريع السلام الاقتصادي الموعودة، بحيث لا تستطيع أيّ أطراف من الأطراف المعنية إقامة أيّ مشاريع أو إبرام أيّ تفاهمات دون إشراك “الفتوّة” الأميركي، أو على الأقل أخذ مباركته ودفع “الإتاوة” المطلوبة. ـ ثالثاً: الاقتراب خطوة إضافية من “قناة السويس”، وإحكام الحصار أكثر وأكثر على مصر من خلال إقامة “مخفر مُتقدّم” يقع فعليّاً على مرمى حجر من البوابة المتوسطية للقناة. في ضوء ما تقدّم، نستطيع أن نستخلص الإجابة على سؤالين مُلحّين يترددان كثيراً في الآونة الأخيرة: هل سيتم “اجتياح” رفح؟ ومتي سيتم اجتياح رفح؟ بالنسبة للسؤال الأول فالإجابة قطعاً نعم! فالحرب على غزّة قد كانت منذ اليوم الأول حرب إبادة وتهجير يشنّها الكيان الصهيوني بالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية ولوبيّاتها وشركاتها وبنوكها وصناديقها السيادية التي موّلتْ وسلّحتْ ووفّرتْ الغطاء السياسي وعرقلتْ أيّ مساعٍ أو قرارات لوقف إطلاق النار.. وهي لم تفعل ذلك حماية لأمن إسرائيل، خاصة بعد أن سقطت “نظرية أمن إسرائيل” بعد السابع من أكتوبر، وتمّ الإجهاز عليها نهائيّاً بعد عملية “وعده الصادق”.. بمقدار ما هو دفاع عن نفوذ أمريكا وهيمنتها ومصالحها الإستراتيجية في المنطقة! وإخفاق الكيان الصهيوني مُمثّلاً بالكلب المسعور “نتنياهو” وعصابة حربه لغاية الآن في إنجاز المهمة القذرة المطلوبة منهم هذه مسألة، والصمود الأسطوري لأهالي غزّة ومقاومتها هذه مسألة.. وأن تغيّر أمريكا أهدافها وغاياتها الشيطانية الخبيثة فهذه مسألة أخرى مختلفة تماماً! بل إنّ أمريكا، ومنذ حسمها لقرارها بإقامة الميناء وبسط سيطرتها العسكرية المباشرة على قطاع غزّة، قد أصبحت معنيّة بإطالة أمد الحرب قدر الإمكان، واستنزاف جميع الأطراف إلى أقصى حدّ، كي تبقى هي الطرف الأقوى على الأرض بعد أن تُنهك بقية الأطراف بعضها البعض.. وسيناريو الاستنزاف والإنهاك لا يمكن أن يتم ويبلغ مداه دون اجتياح رفح. الحالة تشبه الحرب العالمية الثانية، حيث تركت أمريكا جميع الأطراف تتطاحن بينما هي تراقب وتدعم من بعيد، وتركت الاتحاد السوفييتي وبريطانيا يدفعان الثمن الأغلى من أجل هزيمة ألمانيا النازية، ثم أتت هي مثل “قاشوش الباصرة” وحصدت ثمار النصر من خلال “إنزال النورماندي” الذي كان أشبه بمسرحية من مسرحيات “برودواي” أو فيلم من أفلام “هوليوود”.. باعتبار أنّ “عدس” جميع الأطراف ساعتها كان قد استوى، وأنّ مسألة حسم الحرب وهزيمة الألمان كانت تحصيل حاصل! وعلى الجبهة اليابانية لم تتوانَ أمريكا عن استخدام القنبلة النووية من أجل تحقيق حسم سريع بكونها هي المعنية مباشرة بالقتال، ولـ “ضَبْع” بقية الأطراف في مفاوضات ما بعد الحرب! وهذا يقودنا إلى السؤال الثاني: متى سيتم اجتياح رفح؟ اللحظة التي تعلن فيها أمريكا الانتهاء من إنشاء “الميناء الإنساني” المزعوم ودخوله حيّز الخدمة، أو على الأقل لحظة الانتهاء من تموضع وتمركز القوات الأمريكية بحجّة إتمام الميناء وتشغيله وتأمينه.. هي “ساعة الصفر” للشروع في عملية اجتياح رفح! وبالنسبة للجهود المصرية الحثيثة من أجل إنجاح مفاوضات “الفرصة الأخيرة”، وإبرام هدنة “اللحظة الأخيرة”، فهي جهود تعكس مدى إدراك الدولة المصرية العميقة مخاطر وتداعيات سيناريوهات “ما بعد رفح”، و”ما بعد بعد رفح”، على مستقبل أمنها وجيشها وكيانها.. ولكنّها للأسف جهود لن تؤتي ثمارها غالباً، وضربٌ من اللعب في “الوقت الضائع”! أمّا تعاطي وتجاوب الكيان الصهيوني وأمريكا الظاهري مع الجهود المصرية فهو استمرار وإمعان في سياسة المماطلة والتسويف وشراء الوقت بدماء الفلسطينيين لحين “نضوج الطبخة”، وانتهاء الولايات المتحدة (وبريطانيا التي حشرت قوّاتها مؤخّراً في مشروع الميناء) من إرساء الأرضية للخطوة التالية والمرحلة التالية من سيناريو الإبادة والتهجير، وتصفية القضية الفلسطينية، وإعادة إنتاج السيطرة والهيمنة الصهيو- أمريكية/ الأنجلوسكسونية على المنطقة بحلّتها الجديدة للسنوات والعقود القادمة. طبعاً المقاومة وحلفاؤها، سواء حلفاؤها المباشرون في “محور المقاومة”، أو حلفاؤها غير المباشرين من الدول والقوى التي تريد الحدّ من النفوذ الأمريكي والغطرسة الأمريكية.. قد أثبتوا لغاية الآن أنّهم يفهمون العدو وأساليبه وتكتيكاته ومنطق تفكيره جيداً، وأنّ مثل هذه المناورات والحيل والخدع لا تنطلي عليهم.. ولكن على غرار القصة المأثورة عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهتافه المشهور: “يا سارية الجبل الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقط ظلم”، فإنّ ثقتنا بفطنة وحنكة المقاومة لا تمنعنا من محاولة التخاطر معها عن بُعد والقول لها: “يا مقاومة الميناء الميناء، من استرعى أمريكا الغنم فقد ظلم”!
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"