بدأ مفهوم “الاقتصاد الثقافي” بالتداول في مطلع الألفية، عندما تبين أنّ القطاع الثقافي يشكل مورداً لتطوير الأنشطة الإنتاجية في العالم، وعلى الرغم من تخوف الكثير من المثقفين من تسليع الثقافة وتحويل المنتج الثقافي إلى سلعة خاضعة لمتطلبات السوق وما يطلبه الجمهور، بحيث تصبح عرضة لمنافسة المنتجات الاستهلاكية والتفاهة، إلا أنّ الواقع الذي نعيش به يشي بانعدام إمكانية الاستمرار في العمل الثقافي، بدون تمويل ودعم من الحكومات أو بعض الممولين المهمتين، فلا يمكن السكوت عن اغلاق الكثير من المؤسسات الثقافية بسبب قلة الموارد المالية، أو توقف العديد من الكتاب عن ممارسة شغفهم بالكتابة والتحول إلى مجالات عمل أخرى تعود عليهم بما يسد حاجاتهم.لذلك غدا اقتصاد الثقافة أو الاستثمار بالثقافة أمراً لا بدّ منه، وبالنهاية سيكون البقاء للأفضل والأرقى والأكثر تأثيراً، ولنا في الفنون والغناء خير مثال، فعلى الرغم من مرور عقود على رحيلهم، ما زال عمالقة الغناء العربي مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وغيرهم حاضرين ولهم جمهورهم، في حين ظهرت أصوات ما لبثت أن انطفئت وتلاشت ولم يعد لها موطئ في الذاكرة، وهو ما يؤكد أنّ المنتج الفكري من فكر وفلسفة وأدب سيقاوم، ليبقى على الرغم من انتشار الكثير من الكتب سريعة التحضير والتلاشي في الوقت ذاته، فما زال ابن رشد وابن خلدون وغيرهم كثير حاضرين بأفكارهم على الرغم من تلك القرون التي مضت على رحيلهم، وعلى الرغم من حرق مؤلفات الكثيرين، إلا أنّ ما تم إنقاذه بقي وانتشر، واعتنقه الكثيرون ممن بحثوا عن العقل التنويري المتحرر.تعاني كثير من البلاد العربية من قلة الاهتمام بالجوانب الثقافية، فقد تراجع الدعم الحكومي للمشاريع الثقافية بشكل كبير في السنوات الأخيرة عما كان عليه سابقاً لا سيما في الدول التي تعرضت لأزمات سياسية أو أمنية وعسكرية، مقابل دول أعادت تأهيل مؤسساتها الثقافية أو بناءها من جديد وانطلقت في خطوات متسارعة لمواكبة كل جديد في عالم الفكر، كما حصل في المملكة العربية السعودية التي خصصت ما أسمته صندوق التنمية الثقافية وغايته دعم المشاريع الثقافية بمختلف جوانبها، بينما تعاني دولة مثل سورية من تبعات الأزمة، التي حلت بها في السنوات الأخيرة من حرب ودمار، والتي تركت آثارها على المجال الثقافي في البلاد، فلم تعد قادرة على إقامة معارض الكتب وخفضت الكثير من أنشطتها الثقافية والإبداعية بسبب العقوبات التي فرضت عليها وجعلت الاستثمار في هذه المجالات ترفاً لا نستحقه بنظر البعض.لا يمكن لأمة أو بلد أو جماعة النهوض والسير في ركب الحضارة إلا من خلال الثقافة والإبداع، وما احتفاء العالم سنوياً بالأدباء والمفكرين والكتاب من خلال منحهم جوائز مادية ومعنوية من نوبل وبوكر وغيرها، إلا دليل على أهمية دعم تلك العقول المبدعة، فالبلاد لا تنهض بالسياسيين والعسكريين بل هي بحاجة دائماً للفكر والعلم المتمثل بالعلماء والكتاب والفلاسفة وكل من يشتغل في حقل الثقافة، وهنا والآن يحق لنا أن نتساءل عن عدد الفلاسفة في بلادنا العربية ونحن الذين نتغنى بنسب ابن رشد لنا، إننا مجتمعات تسير إلى الهاوية، إن لم تقم السلطات المسؤولة بالتحرك لإنقاذ ما تبقى، أو خلق إبداعات جديدة ودعم المشاريع الثقافية وإعطائها، حرية أكثر وإلغاء تلك الرقابة التي تمكنت لعقود من كم أفواه الكثير من الكتاب وتكسير أقلامهم التي كان يمكن لها أن تشعل منارات في عوالمنا الغارقة في الظلام.لابدّ من الاقتناع أنّ الوقت لم يعد في صالحنا إذا أردنا البقاء بين الأمم الراقية، ولدينا من التراث الفكري والآثاري والحضاري الكثير مما يمكن استثماره، فضلاً عن مئات الكتاب والمفكرين، لذلك لا بدّ من وضع استراتيجية للنهوض باقتصاد الثقافة تتضمن أهدافاً محددة وخطة عمل واضحة، بالتوازي مع توفير مناخ من الحرية بعيداً عن تلك التابوهات التي قيدت مجتمعاتنا لقرون طويلة.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"