04 Nov
04Nov

أمَا كان الحماسيون وحلفاؤهم يحسبون حساباً لما بعد الضربة الأولى؟ لقد تهدمت كل مظاهر العمران في غزة وتقرب أعداد الضحايا من الآلاف العشرة والمصابين من الثلاثين ألفاً. وتنشب حربٌ صغيرةٌ في الضفة الغربية يتبادل فيها الضربات الجيش الإسرائيلي والمستوطنون من جهة، والمفجوعون والمستثارون من الشبان من أنصار «حماس» وغير أنصارها من جهةٍ أُخرى. وسواء أكان الحماسيون قد حسبوا حساباً لما بعد الضربة الأولى. أم لم يحسبوا، فهم الآن يخوضون حرب الوجود والمصير بالفعل وليس الإسرائيليين!
كل يوم يصرّح نتنياهو ووزير دفاعه ومسؤولون عسكريون آخرون بأنها الحرب الشاملة التي لا تتوقف إلاّ بعد إزالة «حماس» من الوجود. وقد بدأوا الحرب البرية بالفعل ويقولون إنهم يتقدمون، لكن بأثمانٍ باهظةٍ في العسكر والمعدات. والأميركيون لا يعترضون، لكنهم يحذرونهم من مخاطر الحرب على الأسرى وعلى المدنيين. ولا أحد يعرف نتائج محادثاتهم مع القطريين ومع المصريين، وكلها تدور بالطبع على آليات وشروط إطلاق سراح الأسرى. وهذا فضلاً على أنّ الأجانب الموجودين بغزة ما توافرت ظروف خروجهم باتجاه مصر.
تقع القيادتان العسكرية والسياسية الإسرائيلية تحت ضغوط الرأي العام الداخلي المنقسم على نفسه. هناك «القرفانون» من القيادتين والذين يريدون تغييرهما مع أنّه في حروب إسرائيل السابقة ما كان أحدٌ يفكر بتغيير القيادة أثناء الحرب. بيد أنّ الانقسام الأكبر يتمدد ويتسع بين الذين يريدون وقف النار لإخراج أقاربهم الأسرى تحت ركام حفائر غزة ومضائقها - والفريق الواسع من الرأي العام الذي يرى أنها فرصةٌ لن تتكرر وينبغي انتهازها لإزالة غزة و«حماس» والحزب المسلَّح في لبنان من الوجود. أميركا معهم الآن قلباً وقالباً بأسلحتها وعسكرييها وسياساتها، فلتكن هذه الحرب هي الأكبر والأخيرة لتأمين إسرائيل نهائياً!
وتأتي حيرة القيادتين الإسرائيليتين ليس من الخوف على المدنيين بالطبع، بل من أمرين آخرين: المخاطر على الأسرى، والمخاطر الأكبر ألا يتمكن الجيش الإسرائيلي المتفوق من تحقيق الانتصار الساحق الذي ما حققه في الحروب إلا مرةً واحدةً عام 1967. فهل تصغي القيادتان لنداءات «الهدنة الإنسانية» التي تنطلق من كل مكان، كما كانوا يفعلون في الحروب السابقة، أم يمضون قُدماً رغم ضخامة الخسائر، وتحولات الرأي العام الداخلي والعالمي، وإمكان توسع الجبهات وتعددها؟! بعد أيامٍ على الدخول البري إلى شمال غزة والوصول إلى شارع صلاح الدين بخسائر هائلة، تجتمع القيادتان للمراجعة والتفكير في الأهداف وعقلنتها، وهي: المضي قدماً في فصل الشمال والوسط عن الجنوب، ثم التوقف أو احتلال القطاع كله أو الاكتفاء بما تحقق وهو ليس كثيراً إلاّ إذا اعتبرنا مقتل الألوف مكسباً يستحق أن يُسمَّى انتصاراً؟! المضيُّ في القتال لن يُخمد صيحات الاحتجاج بالداخل والعالم. لكنّ إيقاف القتال ولو مؤقتاً وإن خدم قضية الأسرى، لكنه سيعرّض القيادتين للمحاسبة المؤجَّلة، وسيثير قضايا ومسائل لم تُثَرْ حتى الآن، ومنها مصائر القطاع ومصائر القضية الفلسطينية.
إنّ هذا كلَّه هو ما يتظاهر الأوروبيون بالانشغال به. فبعد فكرة المؤتمر الدولي من أجل القضية الفلسطينية وحلّ الدولتين (بمبادرة من إسبانيا)، يعرض الإيطاليون والألمان لمصائر السلطة والإدارة في القطاع بعد الحرب، وهم يقترحون إدارة دوليةً تقودها الأُمم المتحدة ويشارك فيها الأوروبيون والدول العربية، ويكون من مهامها تجاوُز سيطرة «حماس» والمسلحين الآخرين، وإزالة المضائق والأنفاق، والاهتمام بالشأن الإنساني والعمراني. وفي حسبانهم أنّ في ذلك إنقاذاً للأسرى ولإسرائيل من العودة لاحتلال القطاع، وإنهاءً لمخاوف توسع الجبهات، ومنعاً للولايات المتحدة من التورط في حربٍ جديدةٍ في الشرق الأوسط.
إنّ حيرة إسرائيل وأنصارها تجاه الوقائع والمصائر لا تُضاهيها غير حيرة إيران في اتخاذ قرارٍ بإشراك ميليشياتها وعلى رأسها الحزب المسلح في لبنان أو عدم الإشراك. يعرف الجميع الآن أنّ «حماس» كانت تستعد للحرب من سنوات. لكنّ إيران ومعها «حماس» ولسببٍ لا يمكن معرفته أو تخمينه اتخذت قرار الحرب الآن. وإذا انتهت «حماس» أو ضعُفت ضعفاً شديداً فستكون إيران هي الملومة ومن أنصارها قبل خصومها. فمنذ أواخر عام 2022 وحتى نشوب الحرب كان تنظيم «الجهاد الإسلامي» الإيراني المنشأ والولاء يشنّ وحده من غزة ومن الضفة حرباً على المحتلين. وكان قادة «حماس» و«الجهاد» يأتون إلى نصر الله بلبنان للتشاور، ومن المؤكد - وقد كان الإيرانيون يأتون أيضاً مثل قائد «الحرس الثوري» ووزير الخارجية - أنهم كانوا يستحثون «حماس» على المشاركة ويختارون لها اللحظة المناسبة. أما وقد نشبت الحرب وكسبت إيران سمعة القدرة على اتخاذ قرار المعركة، فما الخيار الآن؟ هل يخوض الحزب الحرب إلى جانب «حماس» و«الجهاد» فيخسر كما تخسر «حماس»، وتخسر إيران ورقةً تُعدُّها منذ عام 1982؛ لأنّ ما سيُصيب الحزب ليس أقلّ مما يصيب «حماس» وسيصيبها، أم تكتفي إيران وحزبها بهذه المناوشات على الحدود والتي ليس بوسعها أن تغيّر في مصائر الصراع، لكنها تحفظ لنفسها ورقة الحزب في لبنان إلى جانب سورية والعراق... واليمن؟! يقول الأميركيون الذين يتحرش بهم أنصار إيران في العراق وسورية إنهم يردّون وسيردّون ولن يسمحوا بتوسيع الجبهة ضد إسرائيل. فهل تغامر إيران بمقاتلة أميركا وإسرائيل ولو بشكلٍ غير مباشر من طريق ميليشياتها والتي تحمل كلها سلاحاً ومدربة إيرانياً؟!
إذا أوقفت إسرائيل الحرب للاعتبارات السالفة الذكر فستكون لذلك سلبيات على قيادتيها الآن، وعلى الرؤية المستقبلية لوجودها المتفوق نظاماً وعسكراً وستزداد تبعيتها للولايات المتحدة. وإذا خاضت إيران الحرب بواسطة ميليشياتها فستخسر أكثر مما سيخسره الكيان الإسرائيلي، وستضعف أوراقها في لبنان وسورية على الأقلّ. أما إذا لم تخض الحرب فسيظلُّ لها ما تقوله في لبنان وسورية والعراق... وفلسطين. فـ«حماس» و«الجهاد» على الأقلّ قد تكون قيادتهما مضطرةً إلى اللجوء إلى إيران وليس التوزع بينها وبين قطر وتركيا! وصحيح أنّ خيبة الجمهور الفلسطيني والعربي والإسلامي من التخاذل الإيراني ستظهر، لكنّ الإيرانيين يستطيعون القول: إنّ الحزب الإيراني خاض حرب عام 2006 بمفرده وسيظلّ لإسرائيل بالمرصاد هو وأفراخه في سورية والعراق واليمن!
كنا نقول في السنوات الأخيرة إنّ الحرب لن تقع لأنه لا أحد يريدها؛ إذ إنّ خسائرها أكبر بكثير من مكاسبها حتى الاستراتيجي منها. لكنّ الحرب وقعت في أوكرانيا وفي فلسطين وبقرارٍ هناك من روسيا وهنا من إيران، أو لنقل إنّ القرار كان مشتركاً بين إيران و«حماس». فمَن الرابح ومن الخاسر؟ المعقول القول إنه ليس هناك رابح كبير، أما الأكثر خسارةً فالشعب الفلسطيني ثم الكيان الإسرائيلي!


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة