16 Dec
16Dec

من أجل فهم ديناميات الحربين في أوكرانيا وغزة بشكل أفضل، يقدّم لنا التاريخ دروساً جيدة. 

ومن ذلك أنه حينما يُهزم جيش وطني أو ميليشيا محلية في ساحة المعركة، أو يتعرض للإذلال على يد العدو، فإن الذكريات طويلة الأمد تزيد وتحفّز الرغبة في الانتقام.وعلى سبيل المثال، فإن هزيمة فرنسا أمام بروسيا في عام 1861 أدت إلى «معاهدة فرانكفورت» التي فرضت على فرنسا التخلي عن منطقة الألزاس واللورين لبروسيا. 

لكن فرنسا، وخاصة الجيش الفرنسي، كانت غاضبةً ومهووسة بهذه الخسارة وكانت عاقدة العزم على تحرير المنطقة مهما طال الزمن. وكان هذا العامل محدِّداً مهماً أثر في السياسة الفرنسية تجاه ألمانيا، وانتهى باندلاع الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914.

ثم فرضت هزيمة ألمانيا في عام 1918 و«معاهدة فرساي» التي أعقبتها في العام التالي شروطاً قاسية، مثل عودة «الأقاليم المفقودة»، وتفكيك الأراضي الاستعمارية التابعة لألمانيا، والاحتلال العسكري لمنطقة راينلاند، وتعويضات عقابية مدمرة عجّلت بالانهيار الاقتصادي لألمانيا. وهو ما أفضى لاحقاً إلى صعود أدولف هتلر والحزب النازي. 

وطوال حياته السياسية القصيرة، ظل هتلر يشدد على أن الجيش الألماني «تعرض للطعن في الظهر» على يد الخونة في الوطن. وكان من بين هؤلاء أعضاء في الحزب الشيوعي، والجالية اليهودية في ألمانيا!وخلال السنوات الحديثة، أدى انهيار سيطرة الاتحاد السوفييتي على أوروبا الشرقية، بما في ذلك سقوط جدار برلين في عام 1989، إلى إطلاق الأحداث الجسام التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي نفسه في عام 1991. وكان لهذه الأحداث تأثير عميق على جيل من القادة الروس كان شاهداً بشكل مباشر على الإذلال الناتج عن فقدان السيطرة على أوروبا الشرقية، وذلك لدرجة أنهم اعتبروا انهيار الاتحاد السوفييتي «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن». 

ولهذا، فإن تصميم روسيا على منع أوكرانيا، التي كانت بمثابة حجر الزاوية بالنسبة للاتحاد السوفييتي، من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وربما حتى حلف «الناتو»، هو المفتاح لفهم دوافع إطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022.حليفة روسيا وصديقتها، أي الصين، تتقاسم معها الاستياء من القوة والنفوذ الغربيين، ولهذا يتحدث الصينيون عن «مئة عام من الإذلال الوطني» التي وضعت بلادهم تحت السيطرة الغربية من 1832 إلى 1949. 

وهو ما يفسّر تصميمهم الآن على إعادة الصين إلى مكانتها الصحيحة قوة عالمية رائدة.لماذا يُعد هذا التاريخ مهماً؟ الواقع أنه باستثناء حدوث معجزة ما، فإن أي وقف لإطلاق النار أو هدنة، أو إنهاء مؤقت لأعمال العنف في أوكرانيا وغزة، قد يوقف القتال لفترة قصيرة، لكنه لن ينهي الكراهية المريرة التي ولّدتها الحربان. ذلك أن أوكرانيا وغزة تعرضتا لأضرار مادية هائلة سيستغرق إعادة بنائها عدة سنوات. وأغلب سكان أوكرانيا البالغ عددهم 43 مليون نسمة سيظلون يشعرون بالغضب والمرارة تجاه روسيا، وهو ما سيجعلهم أكثر عزماً وتصميماً على الانضمام إلى المؤسسات الغربية. 

وبالمثل، فأغلب الظن أن سكان غزة، وكل إسرائيلي تقريباً، سيرفضون الجهود الرامية إلى إزالة الكراهية المتبادلة التي تجعل من الصعب تصوّر مصالحة بين الجانبين.والواقع أن الدولتين الوحيدتين في العصر الحديث اللتين هُزمتا في الحرب، وأصبحتا لاعبين قويين وفعّالين في المجتمع الدولي لاحقاً هما ألمانيا واليابان. وكلتاهما وافقتا على «الاستسلام من دون شروط»، وكلتاهما غيّرتا مجتمعيهما بشكل جذري، وأصبحتا صديقتين مقربتين للمنتصرين الذين هزموهما. 

لكن هذه الظروف لا تنطبق على الحربين الحاليتين، وينبغي أن تكون لدينا توقعات منخفضة بشأن إمكانية أن تؤدي أي مفاوضات سياسية بين أوكرانيا وروسيا إلى تحسن العلاقات. ومن جانبها، ترى إسرائيل أنه ما دامت «حماس» تشكّل عاملاً في الحياة الفلسطينية، فإن أي تقارب لن يكون ممكناً. وعليه، فإن قوة الانتقام هي التي يرجَّح أن تحدد ما سيحدث في العقود المقبلة، للأسف الشديد، وليس المصالحة. والأكيد أن هذه ليست توقعات سارة، لكنها قد تكون صحيحة.


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة