لم يعرف التاريخ العراقي الحديث نظاماً أكثر بشاعة وتخلفاً مثل نظام البعث السابق الذي هيمن على السلطة لثلاثة عقود سوداء بانقلاب مدبّر تواطأت فيه عدة دول بالتحالف مع حزب البعث, إذ فتح حراس الرئيس السابق عبد الرحمن عارف الحاكم الأقل حكماً في تاريخ العراق المعاصر الأبواب أمام الانقلابيين لتسهيل دخولهم إلى القصر الجمهوري وطرد عارف منه إلى المنفى. دشّن الانقلابيون عهدهم الجديد بالمشانق والسجون السرية التي ابتلعت آلاف المعارضين ونخب المجتمع. قرّر الانقلابيون حصد الشارع السياسي وتصفيره من الأحزاب الأخرى المنافسة والتأسيس لنظام شمولي عائلي لتدور عجلة الموت لتطحن وتسحق عظام قادة أحزاب ووزراء وضباط جيش اتهموا بالخيانة وعدم الولاء على الطريقة الستالينية. أسَّس نظام البعث لنفسه نظاماً صارماً من الأمن والاستخبارات معتمداً على القرابات والولاءات العشائرية والمناطقية في توطيد حكمه وتأمينه. كانت حكومة القرية الإطار الذي استمد منه الثنائي البكر- صدام المفاهيم لإدارة وحكم البلاد ضمن منظومة قمعية دموية لم تسمح للبلاد بالهدوء والاستقرار إلا لفترة بسيطة قبل أن يقرر الثاني إزاحة البكر من السلطة وتسلم الرئاسة والذي سيكون عهده بداية لأكبر الكوارث التي لم تشهدها البلاد من قبل. كان رئيس النظام مسنوداً برجالات القرية وأجهزة الأمن والمخابرات وأفرع منظمات الحزب وجيوشها من المخبرين السريين, إذ كان مهووساً بالزعامة والتاريخ والسير على خطى الحكام الدمويين ممن سبقوه فدشَّن عهده الجديد بحرب مع إيران تلاها غزو مباشر ومفاجئ للكويت انتهى بالهزيمة والتقوقع داخل قصره الرئاسي مع عقوبات دولية مريرة وشديدة القسوة عانت منها البلاد فترة طويلة تآكلت معها العوائد وتراجع الاقتصاد وحلّ شبح الفقر على الجميع. أنهكت سنوات الحصار والعقوبات النظام ولم تنجح أساليب التعبئة والجيوش الورقية المليونية في منع سقوط النظام الذي كان غارقاً في نزاعات مع القوى العظمى في العالم على خلفية قضية تصفية أسلحة الدمار الشامل, إذ زحفت القوات الأميركية بعدتها وعديدها إلى العراق ولأول مرة منذ أن دخل البريطانيون الفاو في العام 1914 لطرد العثمانيين من العراق في حرب دامية استمرت حتى نهاية العام 1918 كانت أرتال القوات الأميركية الزاحفة صوب العاصمة بغداد تتدفق بسرعة من دون عوائق حقيقية إلى أن أسقطت النظام بدخولها منطقة القصور الرئاسية في نيسان من العام 2003 لتعلن نهاية النظام وبداية مرحلة جديدة من تاريخ البلاد. كان السقوط المفاجئ والمدوي أمر صادم للجميع ولم تكن أحزاب المعارضة التي تسلمت السلطة لاحقاً مهيأة بما فيه الكفاية لسدّ الفراغ والشروع في إقامة مشروع وطني حقيقي لبناء الدولة لتكون بديلاً ناجحاً ومقبولاً عن الدولة السابقة التي انهارت بسقوط النظام. لم يكن الجميع (أحزاباً ونخباً ورموزاً) مستعدين لتلك المرحلة, حيث كانت سنوات المنافي والمطاردة كافية لتحرم الأحزاب وكذلك المواطنون في الداخل من خوض تجارب سابقة في الانتخابات وتداول السلطة بشكل سلمي تختزل كلّ الذي حدث في تجارب حكم ناجح, فاقم من ذلك تفجر النزاعات والخلافات التي استيقظت لاحقاً والتي كادت تجرّ البلاد إلى منزلق الحروب الأهلية. كما تسبّبت سياسات الاحتلال وتخبّط مشروع بناء الدولة في أن تعمَّ الفوضى والإرهاب مختلف أنحاء البلاد وظلت تجارب الحكومات الانتقالية التي تشكلت متعثرة ومرتبكة وعاجزة وكان الصراع بين المكونات من أجل المكاسب محتدماً, قبل أن تتحسَّن الأمور لاحقاً ولكن بشكل بطيء ومتدرج مع تعافي البلاد من خطر الإرهاب والاختلاف. كان من المفروض أن تكون هناك سياسة واضحة لإدارة مؤسسات الدولة وفق التجربة الجديدة تقوم على أساس التخطيط واختيار الكفاءات والخبرات لإدارتها وتنفيذها وعدم تدخل الأحزاب في سياستها, فضلاً عن ترسيخ ثقافة سياسية تقوم على احترام نتائج الانتخابات والقبول بها وعدم التخوين والطعن بها مع وجود مؤسسات قضائية ورقابية عالية المستوى تسهر على حماية المال العام ومنع المفسدين من تبديد أموال البلاد بتلك الأرقام الفلكية التي نراها اليوم. كلّ ذلك لم يتحقق طيلة العشرين عاماً الماضية التي أهدرنا فيها فرصة عظيمة للتغيير وطي صفحة الماضي المثقلة بإرث الدكتاتوريات الدامي, بل سرنا في درب شائك مليء بالألغام والعقبات التي وضعتها الظروف والحسابات الدولية والإقليمية في طريقنا, لكن ذلك لا يمنع من القول إنَّ البلاد قطعت شوطاً مهماً في تجاوز آثار الماضي والتطلع نحو آفاق أفضل, لكن ما نحتاج إليه فعلاً أن يتمَّ ترسيخ دولة المؤسسات والقانون من خلال اعتماد معايير الكفاءة والنزاهة وتطوير قطاعات الاقتصاد ومحاربة البطالة والفساد وتشريع القوانين التي تكفل الأمن للمجتمع مع حلّ للنزاعات والخلافات السياسية وفق مفاهيم التعايش السلمي والاحتكام إلى الدستور والقضاء, صحيح أننا خسرنا الكثير بسبب الإرهاب ومخلفاته, لكنَّ الوصول إلى ضفة النجاح والأمن والاستقرار ما زال ممكناً فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة كما يقول الصينيون.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"