31 Dec
31Dec

المقدمة
لا شك أن العديد من التساؤلات تثار اليوم حول أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، بسبب تطورات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة اثر عملية (طوفان الأقصى) التي شنتها حركة حماس ضد إسرائيل. فقد اتجهت الأنظار الى مضيق باب المندب منذ أن أعلنت حركة انصار الله الحوثية في اليمن أنها سوف تستهدف السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة الى إسرائيل التي تعبر مضيق باب المندب، وبالفعل، فقد هاجمت سفناً، واحتجزت بعضها، كما أطلقت صواريخ وطائرات مسيّرة على بعضها الآخر، ما هدد الملاحة في مضيق باب المندب واعاق حركة السفن باتجاه قناة السويس المصرية أيضا» بعد أن أعلنت معظم شركات النقل البحري تغيير مسار سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، هربا من أية هجمات قد تتعرض لها، مما يعني كلفة نقل أكبر، وفترة تسليم أطول.
الأهمية الاستراتيجية
تكمن أهمية مضيق باب المندب في أنه يصل البحر الأحمر بخليج عدن والبحر العربي، وتطل اليمن على حدوده البحرية الشمالية والشرقية في حين تطل على حدوده الجنوبية كل من جيبوتي وارتيريا. ولكن لليمن أفضلية إستراتيجية في السيطرة على المضيق لامتلاكه جزيرة ميون التي تتوسط مضيق باب المندب. ويبلغ عرض المضيق نحو 30 كيلومترا بدءا من رأس منهالي شرقا وصولا إلى رأس سيان غربا. وباب المندب أحد أهم الممرات المائية في العالم وأكثرها احتضانا للسفن، وتمر منه كل عام حوالي 25 ألف سفينة (57 سفينة يوميا) تمثل 7بالمئة من الملاحة العالمية، وتزيد أهميته بسبب ارتباطه بقناة السويس وقربه من ممر مضيق هرمز. كما تمر عبره ما بين 5 إلى 6 بالمئة من إنتاج النفط العالمي، أي نحو 4 ملايين طن، يوميا باتجاه قناة السويس ومنها إلى بقية أنحاء العالم.
ويتمتع مضيق باب المندب بأهمية عسكرية وأمنية، تتطلبها الحاجة للحفاظ على المصالح الاقتصادية وتأمين خطوط التجارة والطاقة الدولية، لذلك حرصت الدول الكبرى والإقليمية القوية على تثبيت قواعد عسكرية لها في الموانئ والجزر الواقعة داخل المضيق وفي محيطه، وعلى شواطئ الدول القريبة والمطلة عليه، وتمتلك الولايات المتحدة، وإسبانيا واليابان وإيطاليا والصين، قواعد عسكرية في جيبوتي المطلة على المضيق، كما أن تركيا لها قاعدة بحرية كبيرة في الصومال القريب من مضيق باب المندب.
أهمية مضيق باب المندب لإسرائيل
بالإضافة الى أن مضيق باب المندب يشكل أحد بوابات ميناء ايلات الى جانب قناة السويس، فان إسرائيل لإسرائيل عدد من القواعد العسكرية في ارخبيل (مجموعة جزر ) «دهلك» التي استأجرتها من إريتريا منذ عام 1995 ، حيث تتواجد قوات بحرية وجوية اسرائيلية في جزيرتي «حاليب وفاطمة» ضمن هذا الأرخبيل كما أن لإسرائيل قواعد عسكرية في كل من جزيرتي «سنتيان وديميرا» تستخدمان في العمل المخابراتى حيث نشرت إسرائيل عناصر مخابراتية وعسكرية لرصد والقيام بعمليات مخابراتية في افريقيا والدول العربية والخليجية بالذات انطلاقا» من هاتين الجزيرتين . وكانت إسرائيل تسلمت جزر (جبل الطير) من الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد استأجرتها من أثيوبيا منذ عام 1967. كما تقوم اسرائيل بمراقبة السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب، وبالتالي للبحر الاحمر، وتمنع السفن التي تراها معادية لإسرائيل مثلما سبق وان حدث مع سفينتين ايرانيتين عندما طلبت تل ابيب من مصر عدم عبورهما قناة السويس ومصر رفضت، كما انها تعاملت مع السفينة التي كانت متوجهة لغزة بعد عبورها من المضيق، وقامت بالقبض على من فيها، وهذا يدل على اهمية وجودها بالمضيق، وثانيا هو تأمين السفن الإسرائيلية التي تدخل المضيق.
عودة التصعيد العسكري في باب المندب
لم يكن التصعيد العسكري في باب المندب هو الأول من نوعه، فمنذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2014، شهد مضيق باب المندب صراعات عسكرية مختلفة شكلت تهديدا» لأمن الملاحة الدولية، وتمثلت بالصراع بين الحوثيين والتحالف العربي بقيادة السعودية للسيطرة على (جزيرة ميون)، الاستراتيجية التي تتحكم بالمدخل الجنوبي للمضيق. كما تعرض عدد من السفن لهجمات بالصواريخ مثل السفينة الإماراتية «سويفت»، كما اطلق الحوثيون قذائف صاروخية عام 2016، على البحرية الأميركية بالقرب من «باب المندب» وزرعوا ألغاما بحرية بشكل عشوائي في المياه الإقليمية. ومنذ العدوان الإسرائيلي على غزة، اثر معركة «طوفان الأقصى» في أكتوبر/تشرين الثاني 2023 بين فصائل المقاومة بفلسطين والاحتلال الإسرائيلي، أعلنت حركة انصار الله الحوثية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أن «باب المندب» والمياه المحيطة به سيتم إغلاقها في وجه السفن الإسرائيلية، وتلك التي تتوجه الى الموانئ الإسرائيلية وأي سفن حربية تحميها بشكل مباشر أو غير مباشر.
تنفيذ التهديد
شرعت حركة انصار الله الحوثية بتنفيذ تهديدها بمهاجمة العديد من السفن الإسرائيلية والأجنبية أثناء عبورها مضيق باب المندب بالصواريخ والطائرات المسيرة (Drones)، وهو ما دفع شركات الشحن الدولية مثل (ميرسك» الدانماركية، ومجموعة الشحن الفرنسية سي إم إيه، سي جي إم و إم إس سي الإيطالية السويسرية، وغيرها)، الى تغير مسار سفنها باتجاه رأس الرجاء الصالح (Cape of Good Hope)، الأمر الذي أدى الى ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا بنسبة وصلت إلى 7.9بالمئة . في وقت أصيب ميناء إيلات الإسرائيلي على البحر الأحمر بالشلل، وزاد وقت الإبحار في المسار البديل إلى إسرائيل بين 17 و22 يوما على أقل تقدير، عبر جنوب افريقيا مرورا» برأس الرجاء الصالح. فسارعت الولايات المتحدة الامريكية في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023 الى تشكيل تحالف بحري متعدد الجنسيات يضم (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنروج والسيشل وإسبانيا)، تحت الاسم الرمزي عملية «حارس الازدهار Operation Prosperity Guardian» وتعني طبعا» حراسة الازدهار الإسرائيلي؟
علما» أن الولايات المتحدة الامريكية تقود تحالفات بحرية متعددة الجنسيات سبق أن شكلتها في المنطقة، مثل التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية”: ويعرف أيضًا باسم “التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية” “The International Maritime Security Construct “IMSC”، وقد بدأ عمله فعليًّا في (نوفمبر 2019)، ومقره البحرين.، وكذلك تقود الولايات المتحدة الامريكية البعثة الاوربية المشتركة للمراقبة البحرية في مضيق هرمز (EMASOH) European-led maritime surveillance mission in the Strait of Hormuz. و «قوة المهام 153 التابعة لها. وارسلت البحرية الامريكية مجموعة هجومية بقيادة حاملة الطائرات دوايت دي أيزنهاور من الخليج العربي، إلى مضيق باب المندب في البحر الأحمر قبالة سواحل اليمن، بالإضافة الى مجموعة مدمرات حاملة للصواريخ من طراز (Arleigh Burke) تقودها المدمرة (USS Carney) التي أسقطت 14 طائرة بدون طيار للحوثيين لدعم عملية (حارس الازدهار).
الكلفة والتأثير
لابد أن نشير الى حقيقة أن قوة الواجب البحرية الامريكية US Navy Task Force في عملية حارس الازدهار سيكون مصدر استنزاف للموارد الامريكية مما سيؤدي الى عدم فعالية هذه القوة من ناحية الكلفة والتأثير Cost and impact! خصوصا» اذا ما علمنا أن قدرات الاعتراض الجوي التي تملكها السفن الحربية الامريكية المتطورة متوسط كلفتها حوالي مليوني دولار، لاعتراض طائرات بدون طيار يمكن إنتاجها ونشرها بأعداد كبيرة بأسعار أقل من 100 ألف دولار.
وهو ما سيؤدي في نهاية المطاف استمرار عمل قوة (حراس الازدهار)، غير فعال من حيث التكلفة»، في مقابل قوة حركة انصار الله الحوثية التي تمتلك موارد غير مكلفة مثل (المسيرات والصواريخ البالستية، والالغام البحرية)، وهي أسلحة تمكنها من إدارة قتال ممتد. والسؤال المطروح هنا عن المدى الذي تريد الولايات المتحدة أن تذهب إليه من خلال حضورها البحري الضخم في البحر الأحمر والخليج العربي وشرق المتوسط؟
البعد الجيوسياسي للحضور البحري الأمريكي
إن البعد الجيوسياسي للحضور البحري الأمريكي في البحر الأحمر والخليج العربي وشرق المتوسط تكشفه أكثر فأكثر التحركات والتطورات العسكرية الامريكية في الشرق الاوسط ومنطقة الخليج العربي منذ العام 1991 ومرورا» بالعام 2003 (احتلال العراق) والتوتر المتصاعد ازاء ايران وسورية، بالإضافة الى منظومة الاتفاقيات الامنية مع عدد من دول المنطقة (دول مجلس التعاون الخليجي)، مستند الى شبكة اتفاقيات وتحالفات عسكرية قائمة في المنطقة على الساحل الآسيوي للمحيط الهادئ.. وصولا» الى ما يجري اليوم من تحركات وحشود عسكرية تحت غطاء دعم إسرائيل في عدوانها على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، ازاء كل ذلك يمكننا القول أن المستهدف من خلف ذلك كله عمالقة أوراسيا: روسيا والصين، وربما ايران وتركيا، ومن هنا يمكننا فهم اسباب وقوف الصين وروسيا، وإيران اليوم، على رأس محور اوروآسيوي في طور التشكل لمواجهة الولايات المتحدة والقوى المتحالفة معها لمنعها من الوصول والسيطرة على أهم منطقة جيوستراتيجية في عالم اليوم، منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر الجسر ومنطقة الوثوب نحو أوراسيا الغنية بالموارد النفطية والغازية أيضا».
الخاتمة
استنادا» الى ما سبق لم يعد خافيا» أن ما يحصل من توتر في منطقة مضيق باب المندب وبحر العرب والبحر الأحمر، يعتبر تهديد واضح للأمن الإقليمي ومؤشر خطير لامتداد الصراع المسلح بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية الى أبعد مما هو متوقع، لاسيما مع تزايد مشاعر الكراهية والرفض للسياسات الامريكية في دعمها ومشاركتها في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، كل ذلك شكل بيئة أمني خطيرة وغير مستقرة قد تؤدي إلى تصعيد خطير وحرب إقليمية ودمار على نحو كبير.


خبير في الشؤون الاستراتيجية والعسكرية


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة