« إنّ ما يجعل الدولة دوماً تبدو كالجحيم على الأرض هو بالضبط ان الانسان يحاول أن يجعل منها فردوسه المفقود». هذا ما ذكره المفكر ( هولدرين) وهو يُنقِّب في تسويف مفاهيم الحريّة. تذكرت هذا النص عندما رُمت بالبحث عن مسوّغ لسبب جعل الحرية والديمقراطية يبدوان في بلداننا وكأنها مرضٌ عضال يُصيب الافراد في مجتمعاتنا، و لكنه يبدو وكأنه الحلّ السحري لمجتمعات أخرى.فأنا المولعُ بالتفكير الحرّ… والعاشق للحريّة منذ عقود حيث افاجأ بالتعبير المراوغ في المعنى الذي تعرضت له الحرية حتى بدت هذه الترهات قابلة للتصديق بعد أن تبين لهم ترهات الكلمة.وبالنسبة لكبار رواد السياسة ( الحريّة بالإكراه) و ( العُهر من السلطة التعسفية) و ( السلطة الغاشمة للآخرين) و ( التحرّر من القيود)، التي بمجملها لا تترك للفرد أي خَيار إلا الطاعة العمياء لأوامر رئيس يرتبط به.غير ان الحريّة الجديدة الموعودة ( حريّة شكلية) من الحاجة وتحرير من إكراه الظروف التي تحدد حتى سجال الإختيار لنا جميعاً، وإن كان ذلك للبعض اكثر بكثير ممّا هو بالنسبة للآخرين. حاجة مادية وقيلَ إنّه تمكين الانسان حتى يكون حرّاً حقيقة بحسب: طغيان الحاجة المادية وتخفيف قيود النظام الاقتصادي المُكبل لحريته… ولكي لا تستقرن في النظير… وتقع في مغالطات المثالية… أيِّ تعريف للحرية التي تجعلني أعيد انتخاب نائب أو وزير أو محافظ سابق على الرغم مِن أنّ المجتمع يعرف مقدار الفساد المتأصل فيه غير الحاجة. هذه الحاجة. التي تسيطر على الوعي وتُكمم أفواه الحرية وتُسكِت الضمائر. وهذا الأمر، وأقصد الحرية المُشتراة، ليست حِكراً على العراق، بل هي سمَة بارزة من سِمات هذا التحوّل غير الشَفاف في مفاهيم الحريّة. الحرية. التي استنسخها ساسَتنا مع تجربة الحريّة المُسلفَنة بعد عملية التغيير عام 2003. عَوداً على بدء، إن التغيير المُشوّه لتجربة الحريّة في مجتمعاتنا ( النايمة) دفعت بالآفراد أو الجماعات تجربة الحرية ومن ثمّ تسويق معانيها أو فرضها كممارسة بالإكراه. وبها حققّت ونجحت في تشكيل دولتها، فبدلاً مِن أن تكون الحريّة وسيلة للتعبير والنهوض بالبلاد والعِباد، تحولّت الى واحدة من أشكال التمظهر المتمثلة بالــــ ( السلطة). ويمكننا القول، أن السلطة هذه هي:القوة التي تُمارسها ( الدولة- الحكومة) بعد أن تُبرر شرعيتها، والشرعية هنا تبرز كأحكام وقوانين مُتّفق عليها من قِبَل مفاصل السلطة المتحكمين بها على رِقاب الشَعب. ويبدو أن الحريّة التي انتخبت رجالات ونساء الحكومة قد أفرزت القوة أو السلطة المُثبتة لأركانها، التي لم تخضع لنواميس الحريّة بالتأكيد. بل بالعكس فقد كرستها عناوين ( سلطات الدولة). أو يمكننا القَول قوتها المُفرطة في تطبيق برامجها، التي هي صورة مشوهة لمبادىء الحريّة، أو قُل هي نماذج الحرية بالإكراه. ورُبّ سائل يسأل: – لِمَ تُغالطون أنفسكم؟. أليست الحريّة هي اجتماع الجماعة على مصالحها، أو هي التي تختار رجالاتها ونساؤها، والتي تكوِّن فيما بعد تشكيلات ومؤسسات حكومتها لتستمد من عقدها الاجتماعي سلطتها غير الغاشمة؟. في هذا المضمون يقول ( ديكارت): – ( أن موافقة الكَثرَة ليست دليلاً على الحقائق العسيرة الكَشف وانه لأقرب الى الاحتمال أن يُجبرها رجلٌ واحد من أن تجدها انت بكاملها). وهذا المعنى يدلك بشكل لا لبس فيه، ان حريّة الاكراه او الحريّة المُستغلة لحاجات الناس، التي تتجاوز فكرة جاهزية الفرد والمجتمع لممارسة الشعب لحقّه، لكنها تصبح فيما بعد مرضاً عُضال سرعان ما ترغب المجتمعات البشرية من الشفاء منها، أو العيش المُذل في كنف أغراضه. ومثل هذه المجتمعات تصبح مجتمعات مُستهلكة القِيَم والمبادىء ومنها الحريّة ومدلهمة لها اكثر من كونها مجتمعات تُمارس حقّها في الحريّة من أجل البناء والنهوض الحضاري. أن الممارسات الخاطئة لقِيَم الحريّة تجعلنا نؤكد ان قوة الفكرة ( ونعني الحريّة) تكمن في أصل فهمها الذي ينميها المنطق ويزكيها ايضاً، وصواب الفكرة لا تُحددها مصدرها الذي أتت منه، بل الدليل الذي إليه نَستَنِد. ويُمكننا القول هنا، في أن هناك فرق بين السبب الذي يجعل الناس تعتقد في شيءٍ ما وما بين السبب الذي يجعل هذا الشيء حقاً وصواباً. ونعتقد ان الحريّة مقاصدها بسيطة القول والتعبير، هي انسانية الانسان. وان الانحراف في فهمها أو التفريط بها أو الدَفع بالإكراه في ممارستها يجعل ( إدارة الإعتقاد) الجمعي أمراً مفروغاً من فشله. وربما تجعل الناس تُدير ظهرَها لحريتها المُبتلاة تحت طائل الحاجة أو المُبرر أو لأي سببٍ آخر كان. جماعة سياسية وبذلك نقول ان السلطة التي جاءت من مُبرر الإجماع أو الأغلبية بالأصوات ( وهم السلطة) لا أكثر ولا أقل. فربما ان النظام او الدولة او السلطة هي نتاج منهج الأفكار والجماعات عبر التعبير عَن نفسها. فضلاً عن ابداء آرائها في المقصد الاول في المنُتظم السياسية أو الجماعة السياسية التي تقودها، وهنا لابدّ أن نذكر ان كِلا الوَعيين، ونقصد وعي الأفراد والجماعات للحريّة هي ولادة لاختيراتها، وهو غير حاسم في تنامي هذه الحريّة.والمقصد الثاني هو قُدرة المنتظم السياسي ( الجماعة الوطنية) المنشئة للسلطة بالمَهام الجِسام التي أخذتها على عاتقها في بسط النظام، نظام العدل النسبي لافراد هذه الدولة. وان حجم ونوع الاخلاص لمجموعة المبادىء او البرامج السياسية المُتفق عليها.وان مقومات تصدع الحريّة يكمن في التغيير في معناها والخوف من أن تكون الحرية مجرد مصنعاً لانتاج السلطة أو الثروة أو الجاه أو حيازة المَنصِب. والغريب ان تتحوّل دولة الحريّة أو الحريّة في هذه الدولة الى مجرد وعود لمغامرين. وان واحداً من أكثر أسلحة الدعاية فعالية فهو الاعتقاد بأن الحريّة هذه سوف تُحقق ما هو أكثر من حاجات المجتمع وتَعِدها في العيش الكريم من توفير المأكل والسكن. لذلك فإن اللعب بقواعد الحريّة ( وفق مقاسات ديمقراطية مشتراة) يجعل المجتمع إما أن يقبل أن يعيش المأساة أو أن يكفر بها؟؟؟؟!!!!.ان وهم الحريّة، أو العيش تحت ظاهرة الحريّة بالإكراه يُسمّم نوع وتاريخ العلاقة بين المجتمعات ودولها. وان هذا الالتباس في المفاهيم السياسية والسلوكيات الحمقاء يعجل في سقوط افراد المجتمع في حبائل أحلامه ويعجل في انهيار بُنيان دولته.فمثلاً، يذكر ابن خلدون في مقدمته:- ( أن هناك ارتباطاً عضوياً بين الدولة والحضارة). وايضاً يرى ان ( وفرة الخيرات ستؤدي الى نشوء وتطور الحضارة والدول). وحذر ابن خلدون على الربط بين الحريّة والدولة والترف المفرط فيه، الذي بادي على رجالاتها، واستعانة رجال الترف في هذه الدولة بالمرتزقة وغيرهم. مُلمِحاً لبداية انهيار الدولة. وذكر ابن خلدون ايضاً ان ترف رجال الدولة والافراط به هو مدعاة لنشوء الطالب وظهور الحساسيّة بين أرد الشعب من الفقراء والمعتازين، وهم يَرون هذا البَون الشاسع بين حياتهم وحياة سلاطينهم. أما المؤرخ ( آرنولد توينبي) فيَعزي سبب انهيار الدولة، الى أنه لا يمكن للشعوب التي اعتادت على الحريّة وكانت باحثة عنها. وتباينت على فرض العدل في مجتمعاتها أن تبقى خاضعة للقوة القاهرة. التي ساهمت في بقاء مجتمعاتها مستقرة. وهو أن استمرار هذه الدول / الحضارات / الشعوب، انما يكمن في قدرة هذه الدول في انجازها الحضاري أو ما تقدمه للبشرية من نماذج خيرّة. وأطلق عليه ( التعبير التاريخي) أو ( التصير الروحي) وهذا التصير مرتبط بالخير وليس بالشَر، وأصّر ( توينبي) في تأكيده على الربط ( المجتمع والتاريخ) من ان الدول والافكار والحضارات سيأتي عليها زمن تضمحل أو تضعف أو تفنى.وان سبب هذا الضعف او الفناء إنما يكمن في ضعف كياناتها الداخلية وعدم احترام حكامها للعقد الذي ابرمته مع شعوبها، الذي سيكون مُبرراً للثورة والرفض والهياج والتذمر أكثر منه للتصادم او الاصطدام مع الخارج. وهنا نذكر ان عظمة الدولة تكمن في احترامها للحريات التي كانت حاجة ماسّة لشعوبها وان تجاوز هذه الحريّة أو اللعب عليها أو تشويهها سكوت مدعاة لزعزعة فقدان هذه الشعوب بالمآلات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تباينت مع سلطاتها على: أما جان جاك روسو فذهب صريحاً في تحديده لمُبررات سقوط الدول حين قال: – ( ان اغلب الدول تنهار بسبب اغتصاب.. الامير / الرئيس يتراجع في خلق الدولة او السلطة وفقاً للقوانين والدساتير المرعية ويتحوّل الى مُغتصب للسلطة السيادية). وهذا الأمر كما يقول روسو، سيجعل الدولة والحكومة تنكمش وتضعف في أداء دَورها المرسوم لها. وبيّن ( روسو) ان الدولة هذه ستفكك فيما بعد وتتحوّل الى اقطاعيات تحكمها رجالات يحكمون وفقاً لِما يملكون وليس الديمقراطيون ( طغاة).وتتحول الديمقراطية الى جانب آخر على شكل دكاكين لسلب المناصب والجاه. وتتحوّل الحريّة لموضوع يدعوا للعيش الكريم والعدل والمساواة، الى وسيلة من وسائل صنع الاولغاركيات التي تتسيد المشهد السياسي. ليس بناءاً على ما تعي أو تعرف أو تخطط أو تتسرع، بل على أساس ما تدفع ولتصل الى ظاهرة وضع الناس لممارسة ( الحرية بالاكراه)، وخلق الاعتقاد المُضاد للوعي. ان فكرة الحريّة الخادعة أو تغيير معانيها تبعاً لوعي الشعوب وبناءً على جاهزية المجتمعات لممارسة حقهم في اختيار جماعاتهم السياسية ومنها التي تُزيد من حجم: – غياب التكافل الاجتماعي. – وايضاً اتساع غياب العدالة الاجتماعية. – تزايد فكرة الاقصاء وفرملة مشاركة القوى السياسية الاخرى فيها. – تنامي شدّة التبعية الخارجية للقوى السياسية بها. – يجعلها تتمثل قول المفكر الامريكي ( رايت ميلر) الذي يقول: ان الاستمرار الخاطىء في توجيه الناس والتماهي في خداعهم قد اصبحت مصدراً اساسياً من مصادر القوة في صنع الفوضى، أو بزوغ جماعة وطنية لها، أم أن يلداننا ليست فردوسنا إلا وطني. لكنها من الممكن ان نعيش بخير جميعنا معها.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"