كنا لأمد طويل، وتحت تأثير اعجابنا بالاشتراكية، نلعن الرأسمالية كل يوم، ونعدد ما ارتكبته من شرور. وندعو الله أن يقطع دابرها من هذا الكون. فهي وراء كل ما لحق بالإنسانية من مظالم. وهي سبب بروز ظاهرة الاستعمار، واندلاع الحربين العظميين، وإنشاء الدولة العبرية، واستنزاف الثروات النفطية .. وغير ذلك كثير !
ولو بقي الأمر على هذا النحو، لكان لنا في ذلك ما يكفي وزيادة. ولما كنا بحاجة لتقليب الأوراق ومراجعة التاريخ. فنحن على الأقل لا ننتمي إلى هذا العالم – الرأسمالي – وليست لدينا فيه مصلحة. بل أننا من جملة المتضررين منه. وقد أكرمنا الله بالانقلاب عليه، في مراحل مختلفة من القرن العشرين!
لكن الأمر اختلف حينما بدأ الرأسمال المحلي بالتكوين، وشرع بعض الأشخاص بتأسيس شركات صغيرة. كانت هناك معامل أنسجة صوفية، وصابون، وأحذية، وشركات تجارة وتعبئة وتصدير تمور، ومستشفيات وكليات أهلية، وغير ذلك من أمور. في وقت ما كانت هذه المؤسسات المتواضعة تؤدي دوراً مشهوداً في حياة ملايين قليلة من البشر، هي مجموع سكان العراق آنئذ. وتحتضن آلاف العمال والموظفين الذين يديرون عملية الإنتاج.
فجأة أدركنا أن هؤلاء هم سبب دمار العراق. وأن التنمية تعطلت بوجودهم على رأس الطبقة “البرجوازية”. وأن من ضرورات الحياة الكريمة والتقدم الاجتماعي أن توضع اليد على ممتلكاتهم، وتتحول إلى مصالح حكومية يديرها موظفون عموميون.
ولم نلبث أن صدمنا بزيادة مواردنا النفطية، فقامت الحكومة بإنشاء مؤسسات عامة تدير مصانع وأسواقاً، وشركات بناء ومقاولات، وأخرى لإدارة ملف النفط والغاز. فأصبح العراقيون بين ليلة وضحاها شعباً “موظفاً” يعمل لدى الدولة بأجر شهري. ولا طموحات لديه غير الستر والعافية وحسن العاقبة.
وقد تبين بعد تجارب طويلة أن “الشغلة” خاسرة. وأن العراق أضحى بلداً “ريعياً”، يبيع النفط ويشتري بثمنه الغذاء والدواء والأثاث والملابس والقدور وأواني الطعام .. ألخ.
في العصر الجديد حاول عدد ممن يملكون ثروات صغيرة، جمعوها من بيع العقارات التي تضخمت أسعارها، أو من التحويلات الخارجية للمغتربين، أن يبدأوا نشاطاً خاصاً. فحصلوا على عقود عمل جيدة، وكونوا رأسمالاً ذا قيمة.
لكن نظرة العراقيين إلى اصحاب رؤوس الأموال المحلية مازالت كما هي، اشتراكية محضة، لا تؤمن بوجود شئ اسمه الشركات الكبرى. ولا يروق لها أن يكون هناك أغنياء ومترفون. فوضعوا أمامها الألغام، من العشائر القاطنة في الجوار، أو من موظفي الدولة، أو من هيئات الضرائب، أو من رجال الأمن المكلفين بحماية البوابات الخارجية !
وأخطر ما في الأمر، أن الدوائر الرسمية التي تعاقدت معهم، أمعنت في إذلالهم، وابتزازهم، وعرقلة أعمالهم. ولم تسمح لهم بالاستفادة من فرص الاستثمار إلا بعد دفع مبالغ ضخمة. ثم قامت بسحب العمل منهم بحجة التلكؤ !
والويل كل الويل لمن يدعمهم، أو يدافع عنهم، أو يتغاضى عن هفواتهم الصغيرة، من المسؤولين وصغار الموظفين. لأنهم سيكونون عرضة لتهم كثيرة ليس أقلها الرشوة والتواطؤ والفساد. وينسى ولاة الأمر أن الشركات المحلية هي مؤسسات ناشئة، تحتاج إلى دعم ومؤازرة وإسناد، حتى تستطيع أن تقف على أقدامها.
حينما سألت مؤخراً عن أوضاع العديد من الشركات الناجحة، التي حققت إنجازات مهمة ذات يوم، قيل لي أنها متوقفة عن العمل، أو غادرت العراق، أو تنتظر دفع مستحقاتها منذ سنوات!
بهذه الطريقة لن يتقدم العراق، وسيظل أسير الأزمات والمشاكل إلى أمد غير معلوم. وستبقى عقدة أسعار النفط تتحكم باقتصاده إلى وقت طويل. وسوف تتعطل التنمية، وتتضاءل فرص العمل. وليس هناك حل إلا بحماية القطاع الخاص، وتسهيل الإجراءات التي تتيح له المشاركة الفاعلة، والتوقف عن ابتزازه ومضايقته وتخوينه. فهو وحده الذي سينهض بعبء التحديث في هذه البلاد.
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *