الزلزال المصرفي الدولي الذي يعصف بالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي يظهر الخلل البنيوي في ذلك النظام. حتى الساعة ما زالت النخب الحاكمة في الولايات المتحدة ومعها في دول الاتحاد الأوروبي ومؤسسات الاتحاد الأوروبي تعمل على تثبيت قوّامة القطاع المالي والتأمين والعقاري المعروف ب “فاير” أي الأحرف الأولى لقطاع المال والتأمين والعقار (FIRE) الذي يعني “النار”. فهو بالفعل النار الذي يحرق كافة مقوّمات الاقتصاد الغربي بعد موجة تفكيك البنى الصناعية الذي بدأ في أواخر السبعينات من القرن الماضي واتباع السياسات النيوليبرالية التي ساهمت في خلق فجوات اقتصادية واجتماعية في الدول التي تعتمدها. الخلل البنيوي في النظام المصرفي في الغرب يكمن في تحوّله من قطاع خدماتي للقطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة والبناء إلى قطاع منتج لثروة افتراضية عبر المضاربات في الأسواق المالية والأسواق العقارية وإنشاء فضاء افتراضي لإنتاج ثروة غير مبنية على الاقتصاد العيني. وهذا الفضاء الافتراضي أصبح متقدّما على الاقتصاد العيني خاصة في حقبة العولمة والثورة التكنولوجية في التواصل ما أدّى إلى تضخّم في السيولة النقدية غير مبرّرة بحجم الاقتصاد العيني. لا داعي في الدخول في سجال نظري حول العلاقة بين الاقتصاد العيني وأمولة الاقتصاد (financialization) لضيق المساحة المتاحة في هذه المقاربة بل نكتفي بالإشارة إلى الخلاصة وهي قوّامة القطاع النقدي والمالي على الاقتصاد العيني ما أدّى إلى تشوّهات (distortions) في البنية الاقتصادية وخاصة في البنية الرأس المالية. هذه التشّوهات لم تكن لتحصل لولا التغييرات في الأنظمة الضابطة. فحقبة العولمة شهدت أقدام الدول الغربية على تفكيك النظم الضابطة والرقابية بحجة تسهيل النمو الاقتصادي والمالي. فالسماح بالولايات المتحدة للمصارف بالتصرّف بأموال المودعين في المضاربات المالية أوجدت سيولة كبيرة سمحت ارتفاع التداول في البورصات وحجم الراس مالة السوقية للشركات لجني أرباح افتراضية غير مرتبطة بأداء الشركات. فأصبحت ودائع المودعين في المصارف رهن حسن تقدير المسؤولين في المضاربات المالية والعقارية فكانت الأزمات المتتالية التي ضربت مصداقية تلك المصارف. وإضعاف تلك النظم الرقابية المقيّدة أدّى إلى التمركز المالي في يد القلّة والسطوة على القرار الساسي للدول. فالنخب الحاكمة استفادت من سطوة المال إلى أن أصبح وجودها في السلطة مدينا لذلك المال وعلى حساب المراقبة والحفاظ على مصالح شعوب دولها. بمعنى آخر إن التسيّب في الاحكام الضابطة ساهم في زيادة الجشع المالي للمسؤولين في المؤسسات المالية سواء كانت مصارف أو بيوت مال ما أدّى إلى اللجوء إلى الاستدانة كرافعة لنمو افتراضي ولإنتاج ثروة مبنية على أوهام الفروقات في الأسعار والفوائد (arbitrage) في الأسواق الفورية التي تتحكّم بالحركة المالية العالمية.
رافق هذا التسيّب في الأنظمة الرقابية سلسلة فضائح أدّت إلى انهيارات لمؤسسات عملاقة. ونشير هنا على سبيل المثال وليس الحصر فضيحة سقوط شركة الطاقة العملاقة أنرون في مطلع الألفية وأزمة الرهونات العقارية في 2008 التي أدّت إلى انهيارات مالية كشركة ليمان برازرز وتعثّر شركة إي أي جي للتأمين (AIG). وهذه الأيام شهدنا انهيار سلسة من المصارف الأميركية امتدت إلى أوروبا. فالمصرف السويسري العملاق العريق كريدي سويس اختفى بين ليلة وضحاها وأصبحت ملكية مصرف يو بي أس بناء على ضغط من السلطات السويسرية وذلك ضمن إجراءات مخالفة للقانون ومجحفة بحق المساهمين سواء كانوا غربيين أو لا. وكذلك الأمر قد يحصل لأكبر مصرف الماني دويتشي بنك المتعثّر والتي قد يفرض تدخّل الحكومة الألمانية عبر إجراءات قريبة من التأميم. منظومة القوانين لا تقف أمام القرارات السياسية التي تتجاوزها وذلك لمصلحة عليا تقدّرها النخب الحاكمة وتفرضها على الدولة والمجتمع. فعلى سبيل المثال لا تسمح النخب الحاكمة بانهيار المؤسسات العملاقة لأنها عملاقة وتداعيات الانهيار أكبر مما يمكن أن تتحملّه النخب وليس المجتمع. فالأكذوبة التي تروّجها النخب الحاكمة والتي تدّعي الليبرالية وقوّامة احكام السوق هي أن انهيار المؤسسات العملاقة قد يؤدّي إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية. والسؤال يصبح لماذا سمحت النخب الحاكمة حصول ذلك سواء في سماح إنشاء مؤسسات عملاقة تهدّد بسقوطها الامن الاقتصادي والاجتماعي؟ كما أن السؤال الآخر هو لماذا سمحت النخب الحاكمة انتشار التسيّب في إدارة المؤسسات؟ فهناك قوانين ضابطة رغم تفكيك القوانين الضابطة لتشجيع النمو والتنافس لكن الخط الذي يفصل بين المغامرة والمقامرة من جهة بأموال الناس وسوء الائتمان والاخلال بها خط رفيع يختفي في كثير من الأحيان فتقع الواقعة. من جهة أخرى أقدمت الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة ومؤسسات الاتحاد الأوروبي على سلسلة من إجراءات مخالفة للقانون الدولي بحجة محاربة روسيا. فسلسلة العقوبات التي فرضتها على روسيا بعد العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا تجاوزت بعضها القانون الدولي. فالاستيلاء على الأصول المالية للدولة الروسية وحتى الشركات والأفراد الروسية تدلّ على عدم احترام القانون الدولي. هذا يجعل المستثمر العادي غير الغربي أن يسأل إذا لم تمتنع الدول الغربية من السطو على أصول أكبر دولة نووية في العالم فماذا يمنعها من الاستيلاء على أموال المستثمرين الذين قد تختلف مع دولها لأسباب ما؟ ولا ننسى أن هذه الدول المتقدّمة العريقة التي تطوّش العالم بحكم القانون والمؤسسات استولت في ماضي غير بعيد على أموال الدولة الليبية، والدولة الفنزويلية، وعلى أموال الدولة الأفغانية، دون أن ننسى أموال الجمهورية الإسلامية في إيران. كما لا ننسى الاستيلاء على عائدات النفط العراقي. هذا يعني أن التعامل مع الغرب من الناحية الاستثمارية فحسب أمر غير مضمون لا من ناحية حماية الاستثمار ولا من الربحية المتوقعة. كما لا ننسى أن الغرب لن يسمح لدول عالم الجنوب الإجمالي الاستثمار في قطاعات استراتيجية. فنذكّر هنا كيف أجبر البرلمان البريطاني الحكومة البريطانية على التراجع عن تملّك لدولة الكويت 25 بالمائة من شركة بريتيش بتروليوم، وذلك في الثمانينات من القرن الماضي. ولا ننسى كيف تدخّل الكونغرس الأميركية لمنع شركة تابعة لدولة الأمارات العربية من إدارة عدد من المرافئ الأميركية سنة 2006. ما يهمّنا هنا هو تداخل القرار السياسي بالقرار الاستثماري وإن كان الغرب ينفي مبدئيا أي دور “سياسي” لأصحاب الأموال العربية. وإذا كان ذلك ممكنا في مراحل سابقة فإن القيادات العربية سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي لا تقلّ خبرة وقدرة عن نظراءها في الغرب. بل يمكننا أن نضيف أن مستوى القيادات السياسية والاقتصادية في الغرب في حالة تردّي مستمر على الصعيد الأداء بينما نرى صعودا ا مستمرا للأداء الاحترافي للمسؤولين الاقتصاديين والماليين في الدول العربية وخاصة في دول الجزيرة العربية.
حجم الاستثمارات العربية في الغرب كبير جدا. بعض المراجع المختصة كموقع “مشروع البحث والمعلومة في الشرق الأوسط” (Middle East Research and Information Project) يشير في تقرير صادر باسم دافيد وايت في صيف 2022 أن الرقم الرسمي للاستثمارات لبلاد الحرمين والامارات العربية في الولايات المتحدة تفوق 800 مليار دولار. ويضيف الكاتب أن الرقم الفعلي أكثر بكثير حيث لم يؤخذ بعين الاعتبار ما سمّاه بالتدفقات المالية “غير المعلنة” (undisclosed). وهناك تقديرات مختلفة تضع رقم التوظيفات العربية إلى أكثر من تريليون دولار دون أن تضيف الاستثمارات في دول أوروبا الغربية. المهم هنا أن اجمالي هذه الاستثمارات قد يصل إلى 3 تريليون دولار منها ما يمكن تسييله بسرعة نسبية ومنها ما يحتاج إلى وقت أطول. وهذه الاستثمارات كبيرة عكست طبيعة العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة والغرب مع دول الجزيرة العربية. هذه الأرقام لا تشمل استثمارات دول عربية كمصر والجزائر وسلطنة عمان في الغرب فتزيد من الانكشاف العربي تجاه سياسات ومزاجية دول الغرب. القدرات المالية العربية ضخمة وقد تشبه قدرات الصين إن لم تتفوّق عليها. والسؤال هنا لماذا لا تُستثمر هذه الأموال في الدول العربية لبناء قاعدة اقتصادية عينية وليست افتراضية تبدأ في البنى التحتية لتصل إلى ألتواصل الفائق السرعة التي تريد الصين ترويجه في دول آسيا عبر مشروعها الحزام الواحد. ألم يحن الوقت لمشروع مماثل عربي يغطّي في المرحلة الأولى الوطن العربي وفيما بعد القارة الإفريقية والقفز إلى اميركا اللاتينية؟ الاستثمار العربي ممكن ونرى بعض تباشيره في الأسواق المحلّية. لكن يجب توسيع الطاقة الاستيعابية للقدرات المالية العربية. الأسواق المالية في الجزيرة العربية قد تكون منصّة لتلك المشاريع. والتعاون بين الدول والأسواق المالية قد يساهم في تحقيق إنجازات كبيرة في الاستثمارات المنشودة. فأحد كبار الخبراء الماليين في بلاد الحرمين ودول الجزيرة العربية السيد يوسف قسنطيني يشدّد على جدّية الأداء في تلك الأسواق. فلماذا لا تكون هذه الأسواق نقطة الانطلاق بالتعاون مع القيادات السياسية لمشروع اقتصادي عربي واسع؟ في هذا السياق نشير إلى وثيقة “نداء الوحدة” الذي أطلقته الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي في مطلع 2022 حيث عرضت سلسلة مشاريع للتشبيك الاقتصادي بين الدول العربية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر هناك مشاريع لشبكة سكك حديدية تربط المحيط الأطلسي بالخليج والمحيط الهندي كما تربط مختلف المناطق داخل الدول العربية. فما تعرضه الصين من تكنولوجيا للقطارات السريعة يمكن أن يُنفّذ في الدول العربية. وكذلك الأمر بالنسبة لشبكات الطاقة وشبكات نقل النفط والغاز والمياه. كما هناك قائمة بمشاريع مشتركة بين الدول وعلى حدود الدول تساهم في تخفيف التمركز في المدن الكبرى وتساهم في تثبيت المواطنين في مناطقهم كما تخلق فرص عمل. وجميع هذه الاستثمارات تستدعي رؤوس أموال أجدى من أن توظف في دول تكره العرب وأموال العرب وتعتبر الاستيلاء عليها حلال. الم يقل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أنه يريد الاستيلاء على النفط العربي وأن يستنزف القدرات المالية العربية؟