09 Dec
09Dec

السياسة هي فن الممكن، هكذا عرفها فلاديمير لينين الزعيم السياسي والمفكر الشيوعي، مؤسس الدولة السوفياتية والمنظر الأساسي للثورة البلشفية الذي يعد من أهم زعماء الحركة الشيوعية العالمية.
لم أجد أفضل من هذا التعريف لبدء مقالي، فلا ابالغ بقولي إن العراق أكثر الدول تطبيقاً لفن الممكن في حياته السياسية التي تفتقر الى الثبات، فتبدل المواقف لدى السياسيين العراقيين أصبح امراً ضرورياً ولا يمكن لسياسي أن ينجح دونه، لكنهم الى الان لم يطبقوا مفهوم (السياسة فن الممكن) بالمفهوم الطبيعي، وفي العودة الى التاريخ، فهناك ثلاث حالات طبقت هذا المفهوم بشكل صحيح لتحقق مكاسب عامة مستقبلية، فالمسلمون فتحوا مكة بعد صلح الحديبية، وتيموجين الهارب أصبح جنكيز خان صاحب أكبر امبراطورية عرفها التاريخ، والاتحاد السوفيتي ساهم بأسقاط المانيا النازية وأصبح أحد قطبي العالم.
رغم الاختلاف في المفهوم بين ما مذكور في التاريخ وبين العملية السياسية في العراق ألا أن عنصر التشابه يكمن في مدى الاستفادة من (فن الممكن).
والاستفادة هنا تقسم الى قسمين، الأولى عامة والثانية خاصة، فالاستفادة العامة لم تحدث سوى مرة واحدة فقط، وهي تبدل المواقف السياسية والتقارب لأنهاء الطائفية في العراق، إلا أن القسم الثاني قد شارك القسم الأول في هذه الاستفادة من خلال استغلال بعض الشخصيات السياسية مسألة انهاء الطائفية لتشكيل زعامات سياسية وتحقيق ثروات كبيرة.
اما القسم الثاني فهو الاستفادة الخاصة وهي كثيرة جداً سأتناول الأهم فيها، فبعد اعلان نتائج انتخابات 2010 وفوز القائمة العراقية بـ 91 مقعدا، متجاوزة في ذلك ائتلاف دولة القانون بزعامة السيد نوري المالكي الذي حصل على 89 مقعداً، لم يكن أمام الاحزاب الشيعية سوى التحالف لمنع خروج رئاسة الوزراء من سيطرتهم، فالتيار الصدري دعم السيد المالكي لتولي رئاسة الوزراء مرة ثانية تاركاً في ذلك موقفه قبل الانتخابات الرافض لهذه المسألة.
في اعقاب عام 2012 اندلعت مظاهرات في عدد من المحافظات السنية احتجاجاً على الحكم واعلانها معارضة النظام السياسي، قادوا هذه التظاهرات سياسيون وشيوخ العشائر السنية في العراق تمكنوا هؤلاء بطريقة ديماغوجية باستمرار التظاهرات لفترة ليست بقصيرة، أدى ذلك الى احتلال تنظيم داعش الإرهابي لثلث مساحة العراق وهروب قادة التظاهرات الى إقليم كردستان وخارج العراق بعد صدور أوامر القاء قبض بحقهم من قبل القضاء العراقي، لكن موقف العداء مع هؤلاء لم يستمر بل سعى زعماء الأحزاب الشيعية لتبرئتهم وإسقاط التهم عنهم والسماح لهم بالعودة الى مناطقهم وعملهم السياسي، فبعضهم لديهم قوائم ومرشحون في انتخابات مجالس المحافظات المزمع عقدها في 18 من الشهر الجاري، متناسين في ذلك ما تسبب به هؤلاء من خيانة وطنية راح ضحيتها 70 ألفا و691 من المدنيين بين عام 2014 حتى عام 2018 بحسب موقع (Iraqi body count) البريطاني المختص بحساب عدد القتلى المدنيين في العراق، فتبدل الموقف للقوى السياسية عند تبرئة هؤلاء لأحداث صفقة سياسية تحقق الاستفادة الخاصة.
لا أتوقف هنا مطلقاً، فالقوى السياسية الشيعية تبدلت مواقفها مراراً وتكراراً فهي دعمت السيد الحلبوسي لمنصب رئيس البرلمان بعد انتخابات 2018 ثم خونته في عام 2021 عندما تحالف مع زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، إلا أنهم عادوا لانتخابه لولاية ثانية لرئاسة مجلس النواب، ثم التخلي عنه. إن تبدل المواقف يسير بطريقة فن الممكن من الدعم الى التخلي ومن التخلي الى الدعم، ومن العداء الى الصداقة، ثم العداء من الدعوى الى المشاركة الى المقاطعة.
أما فيما يخص القوى السياسية السنية فمقاس الازدواجية السياسية مفصل لهم تماماً فرجال الصف الأول للبيت السني في النظام الجديد شاركوا في العملية السياسية وحصلوا على المناصب والمكاسب وعارضوا الدولة وثاروا ضدها، حشدوا أبناءهم للتظاهر الذي تسبب بأشد الاحداث سوءاً في العراق، ومن ثم تركهم يواجهون مصيرهم فمن استطاع ان يهرب من بطش داعش فقد عاش نازحاً، ثم تبدل الموقف مرة أخرى وأحدث تفاهمات سياسية مع القوى الشيعية والكردية لتحقيق الاستفادة الخاصة.
لا يقف تبدل الموقف عند القوى السياسية فقط، بل أصبحت هذه الحالة ظاهرة طبيعية فنرى المدونين يتلونون بتلون زعمائهم ونرى الجماهير تتلون بحسب تلون زعيم الحزب او شيخ العشيرة، فبالعودة الى فترة الثلث المعطل سنجد بأن هناك مجموعة تقصف القواعد الامريكية والبعثات الدبلوماسية ومجموعة تدافع عنها، لكن بعد تشكيل الحكومة طالبت المجموعة الثانية بطرد السفيرة الامريكية لكن المجموعة الأولى ترفض ذلك، ليعود بعد ذلك بعض المجموعة الأولى للقصف القواعد والمطالبة بطرد السفارة، ومن منظور اخر فإن أغلب الاحزاب المؤيدة للمشاركة في انتخابات مجلس المحافظات كانت قد انتقدت في السابق وجود مجالس المحافظات ووصفتها بأنها حلقة زائدة وباب اخر للفساد وتقييد لعمل المحافظ وأن أبرز الاحزاب المقاطعة للانتخابات كانوا قبل سنتين ونصف يدعون للمشاركة الواسعة وأن لا طريق للأصلاح سوى طريق صندوق الاقتراع.
لذا فإن تعريف لينين للسياسة بأنها (فن الممكن) هو مختلف عما موجود في العراق، ففن الممكن عند لينين هو ما تتنازل عنه الان لتحقيق مكاسب شاملة إضافية مستقبلاً، لكن فن الممكن عند النظام السياسي العراقي هو مزاجية سياسية فصناع القرار ينتهجون فن الممكن لتحقيق المصالح الحزبية أي الاستفادة الخاصة لا الاستفادة العامة وهذا هو الاختلاف، وأن هذه المزاجية في القرارات السياسية هي حالة خداعة فعندما يتعكر صفو مزاج صانع القرار تصبح العملية السياسية في حالة سيئة وخطرة وتكثر الاتهامات وترتفع نسبة التخوين وعندما يكون المزاج السياسي صافياً تصبح العملية السياسية مستقرة وفي احسن حالاتها.


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"






تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة