ان المصطلح الإنكليزي ( check and balances ) والذي احدى ترجماته يعني (الضوابط والتوازنات) (حيث هناك ترجمات اخرى حسب التصرف) ، المهم ان هذا المصطلح يعني العطاء مع المراقبة او بتعريف آخر هي عملية منح السلطة والإرادة على السلطة بشكل معين مع المحافظة على التوازنات والتي تساهم في كبح التمدد السياسي او الهيمنة الادارية ، بالتالي فان مصطلح ( الضوابط والتوازنات ) لا يستخدم فقط في المجالات السياسية وانما له استخدامات واسعة في مرافق الحياة والمناهج الادارية كُلِّها ، ففي المجال الإداري تكون الجهة التنفيذية لها قوة الادارة والإنجاز، ولغرض الضبط والتوازن هناك الرقابة المالية والرقابة الادارية على الأجهزة التنفيذية للحيلولة دون تجاوز الصلاحيات ودون التسلط على المال العام او هيمنة الجهات التنفيذية على المقدرات المادية سواء كانت بحسن نية او بنية مُبَيَّته ، بالمحصلة انَّ مبدأ (الضوابط والتوازنات ) يكون صمام الأمان وعنصر الحماية الأكثر فاعلية في الحفاظ على الجهاز التنفيذي من الانحراف والتمدد والتقولِب؛ مما يجعله غير موائم للجهاز التنفيذي . وكذلك نجد مبدأ (الضوابط والتوازنات ) في أغلب الدساتير الناضجة في دول العالم المختلفة ، بغض النظر عن كون الدستور جامد ام مرن ، وكما هو الحال في الدستور العراقي الدائم لسنة 2005 ،فنجد فيه مواقع ومواد ومفردات متعددة الغرض منها تطبيق مبدأ (الضوابط والتوازنات ) حيث انَّ فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية هي قمة استخدام هذا المبدأ المهم والذي يساهم في تأطير سبل ادارة الدولة ، كذلك الحال بالنسبة إلى مجلس الاتحاد (غير المنجز إلى الآن) والذي يُعدُّ من ضمن ذات المبدأ في المحافظة على المجالس التشريعية من التمدد على حساب السلطات الاخرى ، وأخيراً وليس آخراً منح سلطة حماية الدستور والمحافظة على وحدة البلاد لمنصب رئيس الجمهورية كأعلى قدرة في الضبط والتوازن في البلاد.… بالرجوع إلى بداية الحديث من حيث انَّ مبدأ (الضوابط والتوازنات ) في الأروقة السياسية واهميته والذي لايقل عن ما ذكرناه في المجالات الأخرى بل ان ضبط الإيقاع والتوازن في المضمار السياسي اهم مما سبق ومما يلحق ، لان على هذا الاساس تتشكل الحكومات والبرلمانات واجهزة الدولة جميعاً ، ووفقاً لذلك فإنَّ اي خلل في مبدأ (الضوابط والتوازنات) كمدخلات العملية السياسية ستكون مخرجاته غير صحيحة وتواجه الحيود كنتيجة. احزاب علمانية مثال على ذلك وجود احزاب دينية محافظة مع وجود احزاب علمانية او مدنية فالضوابط والتوازنات ستحمي كِلا الجناحين من التمدد ومن فرض سياسة معينة على المواطنين او تبني نظرة خارجية معينة للدولة وهكذا . ماذا لدينا في العراق ؟ يكون مبدأ (الضوابط والتوازنات ) في السياسة بالبلاد من مستوياتٍ عِدَّة، وهذه المستويات هي :- اولاً : العلاقة بين الأغلبية و الأقلية والمكونات الوسطية بينهما ، بالتالي الفكرة تكون بمنع الأغلبية من ممارسة الدكتاتورية على الاقلية والمكونات الوسطية ،وهنا مفهوم الأغلبية ينطبق على (الشيعة ،السنة،الكرد ) مجتمعين فيما يكون مفهوم المكونات الوسطية متمثل بالتركمان (كمكون ثالث حسب الدستور ولكن ليس من ضمن الأغلبية ولا الأقلية )، والأقليات المتكوّن من (المسيحيين والأطياف الاخرى ). بعد سنة 2003 ومن خلال تتبع الأسس الديموقراطية والتعددية كان العمل وفق مبدأ دفع المكونات الوسطية والأقلية إلى الامام والمشاركة في العملية السياسية والإدارية في البلاد على أوجها ،لكن مع مرور الزمن وصولاً إلى الوقت الحالي تقلصت هذه المساهمات لتقارب الانتهاء والانطفاء لدى بعض المكونات خاصة التركمان ،وبذلك ضعف مفهوم الضوابط والتوازن وظهرت هيمنة الاغلبية على القرار السياسي والإداري لهذه المكونات وحتى التمدد الجغرافي عليها . ثانيا: المتمثل ب(الضوابط والتوازنات ضمن مكونات الاغلبية داخلياً اي : 1- الضبط والتوازن بين الأحزاب الكردية ، حيث إلى مدة قريبة كان كل من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني بطرف والعديد الأحزاب الكردية والكردستانية بطرف آخر ، ليكون بذلك مبدأ الضبط والتوازن في اقليم كردستان ، لكن مع مرور الزمن ولاسباب لسنا بصددها تحول طرفا المعادلة إلى صورة مختلفة ليكون الديموقراطي الكردستاني بطرف والاتحاد الوطني الكردستاني بطرف آخر . وحيث أنهما كانا في البداية على طرف واحد فاختلاف التوجهات الحالية ادى إلى اختفاء الضبط والتوازن في الإقليم لينتج حالة من الجمود السياسي واصطفاف سياسي جديد اضر بالإقليم كحضور سياسي وكقوة سياسية في بغداد وحتى دولياً في بعض الاحيان . 2- الضبط والتوازن بين التوجهات السُنية، وحقيقة الأمر هنا الطيف السني يواجه مشكلة معقدة جداً ومنذ سنة 2003 والى الآن وهي تغير المسارات للأحزاب العلمانية والدينية مما لا يترك المجال لنهوض مبدأ (الضوابط والتوازنات )؛ مما يعزز ضياع الكثير من الجهد ودخول مناطق الطيف السُني في سجالات عميقة وغير واضحة النهايات؛ مما يجعل هذا الطيف في عدم استقرار سياسي شبه دائم. 3- الضبط والتوازن ضمن القوى الشيعية . حقيقة الأمر يتجلى مبدأ (الضوابط والتوازن ) في القوى الشيعية في أبهى صوره من حيث وجود القوى والأحزاب الشيعية المحافظة والتيارات الدينية العقائدية مجتمعة وفي المقابل قوى التيار الصدري ،وبذلك يُحجِّم كل الطرف للطرف الآخر في حالات معينة وفي قرارات مختلفة يخلق نوع متبلور من السياسة الداخلية ضمن الطيف الشيعي ، لكن الذين حصل من انسحاب التيار الصدري من الساحة السياسية الرسمية أفقدَ المبدأ بالتالي أظهرَ حالات تمدد وقرارات جهوية بسبب غيابه ، وكان الحال سيكون ذاته لو بقي التيار الصدري وانسحبت القوى الشيعية الأخرى . ثالثاً: المتمثــــــــــــل ب (الضوابط والتوازنات) المذهبية – القومية ،وهنا أيضاً بدأ ينمو هذا المبدأ بصورة مغايرة عن ما كان عليه ،فهذه المستوى مَرَّ في اتجاهين : اطراف عربية 1- الاتجاه المذهبي ، وهو ميلان الأطراف العربية السُنية إلى الأطراف الكردية بصورة عامة في اغلب القرارات في بغــــــــــــــداد بمقابل القرارات الشيعية؛ مما خلق نوع من الضبط والتوازن في الهيمنة السياسية حسب الرؤية لتلك الأطراف مع وجود تمدد جغرافي من هذا الطرف او الطرف الاخر ،واستمرت هذه الحالة من سنة 2003 الى سنة 2017. 2- الاتجاه القومي الصِرف ، وهو بروز الشعور القومي للأطياف السنية والشيعية العربية على الانتماءات المذهبية في مناطق خارج سيطرتهم الفعلية لغرض الضبط والتوازن مع القوى الكردية وخاصة في المناطق (المتنازع عليها) وهذا المفهوم بدأ ينمو بعد احداث سنة 2017. والتي القت بظلالها ضمن المستوى الثاني على العلاقات الكردية -الكردية. ما نحن فيه الآن؟الآن وبعد هذا التفصيل لمفهوم (الضوابط والتوازنات) في الملف السياسي والتغيرات غير الهارمونية في هذا الملف؛ مما بدأ يخلق تنافرات كبيرة ومتشعبة ومع مرور الوقت ضمن هذه الحقبة الحكومية سيكون هناك متغيرات وتعقيدات إضافية بسبب الخلل في مفهوم ( الضوابط والتوازنات ) سواءً ضمن الأطياف داخلياً او بينياً او مكوناتياً (أغلبية ومكونات وسطية وأقلية )؛ مما سيوثر بالضرورة على المسار الديموقراطي والنمو التعددي للدولة ،ولغــــــــــرض ادراك ما يمكن ادراكه وإنماء (ضوابط وتوازنات ) اكثر صحية وأكثر ثبات نجد من الضروري القيام بإحدى المقترحات التالية : 1- عقد مؤتمر سياسي موسع لرؤساء الاحزاب والتشكيلات السياسية ضمن مائدة مستديرة للوصول إلى تفاهمات سياسية يتيح استمرار الوضع السياسي الهادىء في البلاد ويترك مجالاً كافيــــــــــــــاً للحكومة الحالية للعمل وفق منظور المنهاج الحكومي له . 2- اللجوء إلى القرار الصعب والمتمثل بالانتخابات المبكرة وذلك لغرض العمل على احتــــــــــواء تلك الأطراف جميعاً مع لملمة التوجهات السياسية المختلفة والتي سوف تتأزم معهم او بهم الصورة الســـــــــــياسية للبلاد،علما هذا لا يعني ان الحــــــــــــكومة الحالية جزء من المشـــــــــــاكل السياسية لكن اجراء الانتخابات المبكرة سوف يخلق جواً من التناغم والتـــــــــــنافس السياسي والذي من شأنه ان ينتج اتفاقات سياسية جـــــــــديدة اكثر استقراراً للعراق .
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"