18 May
18May

(يقصد بالسلطة القدرة على جعل الآخرين يفعلون أشياء ما كانوا ليفعلونها بدون وجودها. والسلطة هنا لا تقتصر على السلطة القانونية بل تتعداها الى كل أشكال القوة القهرية أو التعاونية،والرسمية وغير الرسمية،والخاصة أو العامة. يختلف علماء الأجتماع في تحديد مصادر القوة الأجتماعية لكني أتبنى أنموذج مايكل مان Michael Mann الرباعي -الآيدلوجيا،الأقتصاد،الجيش والسياسة- بعد تعريقه ليناسب الظرف الأجتماعي للعراق حالياً).

عبر تاريخه المدون منذ بداية الحضارات في بلاد ما بين النهرين،شكلت القوة بمفهومها الموضح أعلاه،وليس بمفهومها الشائع، الواسطة الرئيسة التي يستخدمها الأفراد والمجتمعات لتحقيق غاياتهم وأشباع حاجاتهم. لم تكن هناك حاجة للقوة في عصور ما قبل التاريخ حينما كان الأنموذج الأجتماعي السائد هو مجتمع المساواة.فالكل كان يعتمد على جمع الثمار والصيد لتأمين معيشته ولم يكن هناك فائض من أي شيئ ليتم نبادله مع الآخرين. لكن مع نشوء الزراعة في السهل الرسوبي للفرات ودجلة ظهرت الفوائض الأنتاجية وبدأت مرحلة جديدة في حياة الأنسان تطلبت مزيد من التفاعل الأجتماعي المبني على الحاجة للتعاون والتبادل(التجارة). هنا تم الأنتقال من مجتمعات المساواة egalitarian society الى مجتمع الطبقات Rank Societies. فقد نشأت طبقات غنية وقوية وأخرى فقيرة وقليلة القوة،كما نشأت مجتمعات أو تجمعات بشرية لها نفوذ وقوة أكبر من الأخرى نتيجة ثرائها الأنتاجي أو موقعها التجاري أو سوى ذلك من العناصر التي تزيد من تأثير الفرد والجماعة على الأفراد والجماعات الأخرى.ومثّل ظهور دولة-المدينة في عراق ما بين النهرين المرحلة الثالثة من مراحل تطور الأجتماع البشري،أذ برزت الحاجة لأشكال مؤسسية من تنظيم وأدارة وحماية هذه التجمعات البشرية ضمن نطاق جغرافي محدد وهو ما نسميه اليوم بالدولة. ثم أنتقلت دولة المدينة الى المرحلة الرابعة في سلم تطور الأجتماع اليشري وهي مرحلة الدولة القومية nation state حيث تم توحيد دول المدن في دولة واحدة،لها سلطة واحدة وملك واحد.


نظرية الدولة

ومن هنا نشأت النظرية الحديثة للدولة التي تؤكد على عناصر أساسية يجب توفرها ليسمى أي تنظيم أجتماعي بالدولة وهي: وجود تجمع بشري يتم تنظيمه وأدارته من قبل مؤسسات معينة ضمن نطاق جغرافي محدد. وواضح أنه لا يمكن أدارة هذه المؤسسات ما لم تمتلك القدرة على أجبار أو أقناع الآخرين على التعاون لضمان الأمن والأقتصاد والأزدهار. هذه القدرة على الأجبار أو الأقناع هي ما نسميه القوة السياسية والتي ستكون مدار تقاشنا في هذا المقال وما يليه ضمن هذه السلسلة التي بدأت قبل أثنتي عشرة حلقة وتهدف لتحديد وتحليل مصادر القوة الأجتماعية في العراق.
لقد مثلت الدولة أحد أعظم أختراعات التنظيم الأجتماعي الأنساني منذ بدايات ظهورها في الفترة 5500-5000 ق.م. في جنوب العراق الحالي ولغاية يومنا هذا. وعلى الرغم من التغييرات الكثيرة والمتواصلة على أشكال الدول ووظائفها منذ ظهورها لليوم،الا أن حقيقة واحدة لم تتغير وهي الحاجة الماسة لوجود دولة، سواءً صغيرة كانت أم كبيرة،مركزية أم فيدرالية،أشتراكية أم رأسمالية،جمهورية أم ملكية. فالعمران (أوالأجتماع) البشري كما يقول أبن خلدون لا بد له من سلطان،ولا بد من سياسة تنظم هذا العمران،ولا بد من وازع بدفع به الناس بعضهم بعضا وهو ما أسميته هنا بالقوة السياسية. أنها القوة التي تتيح للدولة(حصراً) تنظيم وأدارة شؤون المجتمع أو المجتمعات الخاضعة لسيطرتها سواءً على الصعيد المركزي أو المحلي. يلاحظ أن القوة السياسية كما تم تعريفها هنا هي قوة مؤسسية(تمارس من خلال مؤسسات) مدعومة بسلطة قانونية لها أمكانية القسر ضمن نطاق جغرافي محدد. هذه القوة قد تمارس ضمن مؤسسات الدولة نفسها أو المؤسسات الدولية(الدبلوماسية) التي هي عضو فيها.كما أنها قد تمارس من خلال الأجبار أو الأستبداد أو من خلال الأقناع أو القانون.

لقد أفتقد العراق عند تأسيسه في عام 1921 الى عنصرَين أساسيين للقوة السياسية،كما تم تعريفها هنا، وهما المؤسسية والجغرافية. فقبل 1921 كانت حدود العراق غير موجودة،لأن العراق نفسه كدولة لم يكن موجوداً. وعلى الرغم من أن العراق كان مقسماً لثلاث ولايات عثمانية،الا أن حدودها النهائية لم تكن محددة تماماً فضلاً عن أنها كانت ولايات مستقلة تتبع للحكم العثماني في أسطنبول مباشرة. لذلك ومع بداية التأسيس برزت مشاكل حدودية مع معظم جيران العراق حول الموصل وكوردستان والأهواز ومناطق أخرى. كانت هذه المشاكل،وبغض النظر عما أنتهت اليه،عنصراً مضعِفاً للدولة العراقية الفتية وسبب لها الكثير من التبعات السلبية. أما على الصعيد المؤسسي،فقد أعتمدت الدولة العراقية على مؤسستي البيروقراطية،وهي موروثة من العثمانيين غالباً،وعلى المؤسسة العسكرية والتي تشكلت قبل تشكيل الدولة بأكثر من سنة وكانت من القوة بحيث كانت تنافس المؤسسة السياسية بل وتتفوق في قوتها عليها أحياناً وهو ما كان واضحاً في عدد الأنقلابات والتمردات العسكرية من جهة،وفي حجم أشغال العسكر للمناصب القيادية في الدولة الفتية من جانب آخر.
نوايا طيبة
.

وبغض النظر عن النوايا الطيبة لمؤسس العراق الحديث(فيصل الأول رحمه الله) ومشروعه لبناء دولة قوية، الا أن أكبر فشل يسجل على النظام الملكي(ربما لأسباب خارجة عن أرادته) هو الاعتماد على مؤسستي الجيش والبيروقراطية فقط وعدم قدرته على بناء مؤسسات سياسية قوية (كالبرلمان) موازية،وموازنة، لهاتين المؤسستين وقابلة للاستمرار. لقد ظل النظام الملكي معتمدا على دعم القوى التقليدية الممثلة بالشيوخ والأغوات وكبار الملاك والذين شكلوا حوالي 45 بالمئة من برلمانات ذلك العهد في حين كان تمثيلهم المجتمعي اقل من ذلك بكثير .
والحقيقة إن كل النظم التي حكمت العراق بعد تأسيس الدولة الحديثة 1921 فشلت في بناء مؤسسات سياسية واجتماعية بديلة عن المؤسسات التقليدية وبقي الحراك الاجتماعي والمكانة يعتمدان بشكل رئيس على الانضمام للجماعة والولاء لها، وليس على الإنجاز الفردي. وكان هناك فشل ذريع،منذ تأسيس العراق الحديث الى يومنا هذا في أيجاد مؤسسات قادرة على أستثمار رأس المال الأجتماعي وتطويره،وتعبئة أكبر قدر من المواطنين ضمن نطاق الدولة.
لقد أدى هذا العجز المزمن في حشد وأدماج العراقيين ضمن مشروع الدولة،الى فجوة بل عداء في كثير من الأحيان بين العراقي ودولته. وبقيت الدولة تُحترم أما شكلياً أو خوفاً من سطوتها .

لذا بقيت مناطق جغرافية كثيرة(خارج المدن الرئيسة) غير خاضعة لسلطة الدولة فعلاً أو على عداء دائم معها. كما كنا نشهد على مر الزمن منذ تأسيس الدولة للآن سرعة أنقضاض المواطنين على أملاك الدولة ومنشآتها حالما يستشعرون ضعفها أو زوالها،كما حدث ذلك في مرات عديدة آخرها ما سمي ب»الحواسم». لكن ما هي أهم نقاط قوة وضعف الدولة العراقية والتي تؤثر في قوتها السياسية؟ هذا ما ستتم مناقشته بأستفاضة لاحقاً.


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة