من النّافل القول إنّ النّزعة العلمويّة في التّفكير الفلسفيّ قابلةٌ لأن تَتَمَظْهر في صُوَرٍ منها مختلفة، لا في صورةٍ واحدةٍ نمطيّة، وأن تُفْصح عن نفسها - بما هي إيديولوجيا تدور على تقديس العلم - في ميادينَ معرفيّةٍ مختلفة. رأيناها تتجلّى، في ابتداء أمرها، في الدّاروينيّة الاجتماعيّة؛ ثمّ بعدها في الوضعانيّة السّوسيولوجيّة؛ وفي بعض علم النّفس السّلوكيّ؛ وما لبثت أن تبلورت - على نحوٍ أحدّ - في الوضعيّة المنطقيّة؛ بمدارسها الألمانيّة والنّمساويّة والإنجليزيّة المختلفة. ومنذ ثلاثينيّات القرن العشرين - حين بدأ ازدهارُ فلسفة الوضعانيّة المنطقيّة وانتشارُ مفاهيمها - بات نفوذ أطروحاتها الفكريّة في ميادين المنطق وفلسفة اللّغة غالباً، واستمرّ كذلك لعقودٍ لاحقة، محمولاً على صهوة تأثير الوضعانيّة في التّفكير المعاصر جملةً، إلى حين شرع تأثير البنيويّة يزاحمه في اللّغة وفي سواها من ميادين الفكر أخرى. أَشْرَعُ الأبواب إلى ولوج العِلمويّة فضاءَ الفكر العربيّ هو بابُ المنطق وفلسفة اللّغة. هذا ما يفسِّر سِرَّ ذلك التّأثير السّحريّ الذي كان للوضعيّة المنطقيّة في شريحةٍ من المفكّرين والفلاسفة العرب أَظْهرُهم زكي نجيب محمود. نلمس أثرَ ذلك في كتابه المنطق الوضعيّ، الذي استعاد فيه - ولخّص - مجملَ قضايا المنطق (الموضوع، القضيّة، منطق الحدود، منطق العلاقات، منطق القضايا، القياس، الاستنباط، الأورغانون الجديد، الاحتمالات...)، والذي عدَّهُ "بمثابة الأساس من البناء الذي صحَّ منّي العزم على إقامته طابقاً في إثر طابقٍ تجيء كلُّها تدعيماً للمذهب الوضعيّ في شتّى نواحيه"؛ مثلما قال في مقدّمة الكتاب. ونلمَس الأثرَ عينَه في كتابه موقف من الميتافيزيقا، الذي صدر في السّنة عينِها التي صدر فيها الكتابُ المومأ إليه عن المنطق. ولكنّ وضعانيّتَه في النّظر إلى الميتافيزيقا أطلّت من نافذة اللّغة، في المقام الأوّل؛ حيث كلام الميتافيزيقا، عنده، "فارغٌ... لا يرسم صورةً، ولا يحمل معنًى..." كما ورد في مطلع كتابه عن الميتافيزيقا. لا يتحرّج زكي نجيب محمود في أن يجْهر بعلمويّته، وفي أن يعيِّن وجْهَ حضورها في وعيه في الوضعيّة المنطقيّة، بالذّات، مصرِّحاً بأنّ أوّل تمرين دراسيٍّ على مفاهيمها إنّما هو ذلك الذي يتّخذ شكل نظرةٍ نقديّة إلى الميتافيزيقا. نقرأ له، في هذا الباب، قوله من مقدّمة المنطق الوضعيّ: "أنا مؤمن بالعلم، كافرٌ بهذا اللّغو الذي لا يُجدي على أصحابه ولا على النّاس شيئاً؛ وعندي أنّ الأمّة تأخذ بنصيبٍ من المدنيّة يكثُر أو يقلّ، بمقدار ما تأخذ بنصيبٍ من العلم ومنهجه... ولمّا كان المذهب الوضعيّ - والوضعيّ المنطقيّ الجديد بصفة خاصّة - هو أقرب المذاهب الفكريّة مسايَرةً للرّوح العلميّ... فقد أخذْتُ به أخْذَ الواثق بصدق دعواه؛ وطفِقْتُ أنظر بمنظاره إلى شتّى الدّراسات، فأمحو منها - لنفسي- ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحوَه. وكالهرّة التي أكلتْ بنيها، جعلتُ الميتافيزيقا أوّلَ صيْدي... لأجدها كلاماً فارغاً لا يرتفع إلى أن يكون كذباً..." من البيّن أنّ الخطاب الفلسفيّ هذا خطابٌ عقائديّ (= دوغمائيّ) لأنّ مبْنَاه على إيمانٍ أعمى بالعلم وبقدرته على اجتراح المستحيلات؛ إيمانٌ يصل بصاحبه إلى التّسليم به من غير تَسْآل، أي إلى حيث تعطيل حاسّته النّقديّة التي هي مِن أخصّ خصائص الفلسفة! والأغرب من هذا أنّ الإيمان الأعشى بالعِلم وفتوحاته، عند فلاسفة النّزعة العِلمويّة، فعْلٌ ذهنيّ افتراضيّ لا يشاطرهُم العلماءُ إيّاه لمعرفتهم أنّ حقائقه نسبيّة وخاضعة للتّغيّر؛ لذلك يَبدون هُمْ أقرب إلى المضمون النّقديّ للفلسفة، على التّحقيق، من فلاسفةٍ لا يفعلون بدعواهُم العلمويّة غيرَ القَدحِ في الفلسفة والحطِّ منها بدعوى أنّها هي، عينُها، الميتافيزيقا؛ وذلك ما سقط فيه زكي نجيب محمود مرّتين: مرّة حين لم يتبيّن، بما يكفي، الفرق بين الفلسفة والميتافيزيقا؛ وأخرى حين علّق عملَ الفلسفة على عملِ العلم، فلم يعترف لها بشيءٍ آخر سوى التّحليل المنطقيّ لما يقوله العلماء (ولِمَا يقولُه عامّةُ النّاس). إنّ قارئ مقدّمة كتاب موقف من الميتافيزيقا سيصاب بالدّهشة، من غيرِ شكّ، وهو يقرأ ذلك الكمّ الكبير من المقذوفات القَدْحيّة في حقّ الفلسفة ومعارفها، والذي يصْدُر من فيلسوف لا من عالمٍ أو ثيولوجيّ! يكاد موقف فلاسفة الوضعيّة المنطقيّة (جورج إدوارد مور، لودفيغ فتغنشتاين، برتراند راسل، أدولف كارناب، زكي نجيب محمود...) أن يشبه موقف فلاسفة الإيبيستيمولوجيا من علاقة الفلسفة بالعلم؛ الجامعُ بين هؤلاء وأولئك وضْعُ الفلسفة برسْم خدمة العلم: تحليل مَقُوله ونتائجِه وبيانُ موضوعيّتها ودقّتها! وكم هي بئيسةٌ هذه الوظيفة، التي يَكِلُها هؤلاء إلى الفلسفة، ومُفْقِرةٌ لمضمونها النّقديّ الذي يُفْترَض فيه أن يسائل المسلّمات جميعَها، بما فيها مسلّمات العلم التي يَجُبُّها تطوُّرُهُ هو نفسُه. هكذا ينتهي المطاف بالعِلمويّةِ إلى حيث تصير دوغمائيّةً جديدة تنضاف إلى ما قبلها!
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"