05 Jun
05Jun

الحج‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الإسلام،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بهذه‭ ‬الصرامة،‭ ‬ولا‭ ‬الرهبة،‭ ‬والانضباط،‭ ‬ولا‭ ‬الشعور‭ ‬بالطاقة‭ ‬الروحية‭ ‬الهائلة‭ ‬للمكان،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ضعف‭ ‬التنظيم‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬الشعائر‭ ‬والمناسك،‭ ‬وليس‭ ‬ثمة‭ ‬حضور‭ ‬قوي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬مشهد‭ ‬الحج،‭ ‬كذلك‭ ‬لم‭ ‬يتدخل‭ ‬الخلفاء‭ ‬الأمويون‭ ‬أو‭ ‬العباسيون‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يمارس‭ ‬في‭ ‬الحج‭ ‬من‭ ‬طقوس‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬امتداداً‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يمارسه‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحج‭ ‬الجاهلي،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬الجاهليون‭ ‬مثل‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬الساميين‭ ‬يستخدمون‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬عباداتهم،‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬آلات‭ ‬الطرب،‭ ‬وذلك‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬بهجتهم‭ ‬وسرورهم‭ ‬بتعبدهم‭ ‬للآلهة‭ ‬وتقرباً‭ ‬إليها‭ ‬بهذا‭ ‬الغناء‭ ‬الذي‭ ‬يدخل‭ ‬السرور‭ ‬إلى‭ ‬نفوسها‭. ‬إن‭ ‬أهل‭ ‬الجاهلية‭ ‬كانوا‭ ‬يطوفون‭ ‬بالبيت‭ ‬يصفرون‭ ‬ويصفقون‭…‬ففي‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭: (‬سورة‭ ‬الأنفال‭ (‬35‭)‬﴿وما‭ ‬كان‭ ‬صلاتُهُمْ‭ ‬عِند‭ ‬الْبيْتِ‭ ‬إِلّا‭ ‬مُكاءً‭ ‬وتصْدِيةً‭ ‬فذُوقُوا‭ ‬الْعذاب‭ ‬بِما‭ ‬كُنتُمْ‭ ‬تكْفُرُون﴾‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬المستدرك‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬عباس‭ -‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭ -‬قال‭: ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬تطوف‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬وهي‭ ‬عريانة،‭ ‬فتقول‭: ‬منْ‭ ‬يُعيرني‭ ‬تطوافاً؟‭ ‬تجعله‭ ‬على‭ ‬فرجها،‭ ‬وتقول‭:‬
اليوم‭ ‬يبدو‭ ‬بعضه‭ ‬أو‭ ‬كله‭ ‬فما‭ ‬بدا‭ ‬منه‭ ‬فلا‭ ‬أحله‭ ‬
‭ ‬فما‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬مناسك‭ ‬الحج‭ ‬إلا‭ ‬أمور‭ ‬شكلية‭ ‬فغالبية‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬أيام‭ ‬الحج‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬ممارسة‭ ‬الحج‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬إذ‭ ‬بعد‭ ‬إقامتهم‭ ‬الشعائر‭ ‬الدينية‭ ‬المفروضة‭ ‬وبعد‭ ‬أدائهم‭ ‬القواعد‭ ‬المرسومة،‭ ‬إلى‭ ‬الفرح‭ ‬والسرور‭ ‬والرقص‭ ‬ليدخلوا‭ ‬السرور‭ ‬إلى‭ ‬قلوب‭ ‬الأرباب،‭ ‬ففي‭ ‬الحج‭ ‬إذن‭ ‬شعائر‭ ‬دينية‭ ‬وعبادة‭ ‬تؤدى،‭ ‬واجتماع‭ ‬وحبور‭. ‬
فالحج‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬أعياد‭ ‬يجتمع‭ ‬الناس‭ ‬فيها‭ ‬للاحتفال‭ ‬معاً‭ ‬بتلك‭ ‬الأيام،‭ ‬وهم‭ ‬بذلك‭ ‬يدخلون‭ ‬السرور‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬وعلى‭ ‬أنفس‭ ‬آلهتهم‭. (‬3‭) ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬الحج‭ ‬عيد‭ ‬من‭ ‬أعياد‭ ‬الجاهليين‭. ‬فلا‭ ‬غرابة‭ ‬من‭ ‬تخلل‭ ‬مواسم‭ ‬الحج‭ ‬مشاهد‭ ‬الغناء‭ ‬أيام‭ ‬الحج‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الإسلام‭ ‬عبر‭ ‬قرونه‭ ‬الأولى،‭ ‬إذ‭ ‬ذكر‭ ‬الغزالي‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬نهاية‭ ‬الأرب‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬الأدب‭ ‬‮«‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يدورون‭ ‬أولاً،‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬بالطبل‭ ‬والغناء‭ ‬وذلك‭ ‬مباح‭ ‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬التشويق‭ ‬إلى‭ ‬الحج‭ ‬وأداء‭ ‬الفريضة‭ ‬وشهود‭ ‬المشاعر‭…‬‮»‬‭ ‬فإن‭ ‬الشعراء‭ ‬والمغنيين‭ ‬كانوا‭ ‬يعدونها‭ ‬أياماً‭ ‬احتفالية‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬الشاعر‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬ربيعة‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الحج‭ ‬فرصة‭ ‬هائلة‭ ‬لاستعراض‭ ‬الفتيات‭ ‬والنساء‭ ‬ممّن‭ ‬اشتهرن‭ ‬بالجمال‭ ‬في‭ ‬بلدانهن‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وكان‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬تتبعهن‭ ‬واستعراضهن‭ ‬لذة‭ ‬لا‭ ‬تقدر،‭ ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬يقول‭:‬
ليت‭ ‬ذا‭ ‬الدهر‭ ‬كان‭ ‬حتماً‭ ‬علينا‭ ‬كل‭ ‬يومين‭ ‬حجةً‭ ‬واعتمارا
‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يقدم‭ ‬الأشعار‭ ‬للمغنيين‭ ‬يتغزل‭ ‬فيها‭ ‬ممن‭ ‬تأثر‭ ‬بهن‭ ‬من‭ ‬الحسان‭ ‬فيلحنونها‭ ‬ويغنونها‭. (‬1‭) ‬ومما‭ ‬يذكر‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يفتنون‭ ‬الناس‭ ‬بغنائهم‭ ‬في‭ ‬موسم‭ ‬الحج‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬المغنيين‭ ‬الغريض‭ ‬وهو‭ ‬يغني‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المزدلفة‭ ‬ويحبسهم‭ ‬عن‭ ‬مناسكهم،‭ ‬وكذلك‭ ‬يفعل‭ ‬ابن‭ ‬سريج‭ ‬يغني‭ ‬فيجعل‭ ‬الحجيج‭ ‬يركب‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضاً‭-‬من‭ ‬شدة‭ ‬الزحمة‭ ‬والتدافع‭ ‬للسماع‭-‬حيث‭ ‬كان‭ ‬المغنون‭ ‬يتخذون‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬المنصات‭ ‬الترابية‭ ‬فيتزاحم‭ ‬الناس‭ ‬حولها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاقتراب‭ ‬أكثر‭ ‬منهم،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يفعله‭ ‬أيضاً‭ ‬ابن‭ ‬عائشة‭ ‬وغيره‭. ‬فما‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬غناء‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬ممارسة‭ ‬اجتماعية‭ ‬عادية‭ ‬وتقليدية‭ ‬جداً‭ ‬لا‭ ‬تثير‭ ‬حفيظة‭ ‬الحاكم‭ ‬ولا‭ ‬الضغط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬تحريم‭ ‬للغناء،‭ ‬وإلا‭ ‬بماذا‭ ‬نفسر‭ ‬هذه‭ ‬المهرجانات‭ ‬الغنائية‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬مناسك‭ ‬وشعائر‭ ‬الحج،‭ ‬ولا‭ ‬يتخطى‭ ‬الأمر‭ ‬حتى‭ ‬الخلفاء‭ ‬إذ‭ ‬سمعوا‭ ‬الغناء‭ ‬أثناء‭ ‬حجهم‭. ‬
فيقال‭ ‬بهذا‭ ‬الصدد‭: ‬إن‭ ‬يزيد‭ ‬أخاه‭ ‬حج‭ ‬بالناس‭ ‬وسمع‭ ‬غناء‭ ‬ابن‭ ‬سريج‭ ‬فأعطاه‭ ‬حلته‭ ‬وخاتمه‭. ‬ويروي‭ ‬أبو‭ ‬الفرج‭ ‬أن‭ ‬سليمان‭ ‬أخاه‭ ‬حج‭ ‬فسبق‭ ‬بين‭ ‬المغنين‭ ‬ببدرة‭ ‬والبدرة‭: ‬كبس‭ ‬فيه‭ ‬ألف‭ ‬درهم‭ ‬أو‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬درهم‭ ‬أو‭ ‬سبعة‭ ‬آلاف‭ ‬دينار،‭ ‬ونال‭ ‬الجائزة‭ ‬ابن‭ ‬سريج‭. ‬
ويقال‭: ‬إن‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬يزيد‭ ‬أنه‭ ‬حج،‭ ‬وبينما‭ ‬هو‭ ‬يسير‭ ‬ليلة‭ ‬في‭ ‬معسكره،‭ ‬وإذا‭ ‬بصوت‭ ‬جميل،‭ ‬فأشار‭ ‬لبعض‭ ‬من‭ ‬معه‭ ‬أن‭ ‬يقول‭: ‬أعد‭ ‬الصوت،‭ ‬فقال‭ ‬المغني‭: ‬لا‭ ‬والله‭ ‬إلا‭ ‬بالفرس‭ ‬الأدهم‭ ‬بسرجه‭ ‬ولجامه،‭ ‬وأربعمئة‭ ‬دينار،‭ ‬فنودي‭ ‬أين‭ ‬منزلك؟‭ ‬ومن‭ ‬أنت؟‭ ‬فقال‭: ‬أنا‭ ‬الأبجر،‭ ‬وكان‭ ‬الأبجر‭ ‬يعترض‭ ‬بغنائه‭ ‬الحجاج‭ ‬على‭ ‬عادة‭ ‬المغنين‭ ‬في‭ ‬مكة‭.‬
وكان‭ ‬الحجاج‭ ‬يقضون‭ ‬أوقاتهم‭ ‬ولياليهم‭ ‬الطويلة‭ ‬بعد‭ ‬انصرافهم‭ ‬من‭ ‬مناسك‭ ‬الحج‭ ‬بالسمر‭ ‬ويغنيهم‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬مغنٍ‭ ‬أو‭ ‬مغنية‭ ‬بشعر‭ ‬عمر‭ ‬وأصحابه‭ ‬المكيين‭. ‬وحين‭ ‬حج‭ ‬ابن‭ ‬رامين‭-‬أكبر‭ ‬تاجر‭ ‬للقيان‭ ‬في‭ ‬الكوفة‭-‬أخذ‭ ‬جواريه‭ ‬معه‭ ‬منهن‭ ‬سلامة‭ ‬الزرقاء‭ ‬وربيحة‭ ‬وسعدة‭ ‬اللواتي‭ ‬اشتراهن‭ ‬من‭ ‬المدينة،‭ ‬وكان‭ ‬أهل‭ ‬الكوفة‭ ‬يغشون‭ ‬منزله‭ ‬ويستمعون‭ ‬لقيانه،‭ ‬وبعد‭ ‬ذهابه‭ ‬بصحبتهن‭ ‬علت‭ ‬حينئذ‭ ‬الحسرات‭ ‬نفوس‭ ‬أهل‭ ‬الكوفة‭ ‬وأفئدتهم‭:‬
أية‭ ‬حال‭ ‬يا‭ ‬بـن‭ ‬رامـين ‭ ‬حال‭ ‬المحبين‭ ‬المساكين
تركتهم‭ ‬موتى‭ ‬ولم‭ ‬يتلفوا ‭ ‬قد‭ ‬جرعوا‭ ‬منك‭ ‬الأمرين
‭ ‬وسرت‭ ‬في‭ ‬ركب‭ ‬على‭ ‬طية ‭ ‬ركبب‭ ‬تـهـام‭ ‬ويمـانـين
يا‭ ‬راعي‭ ‬الذود‭ ‬لقد‭ ‬رعتهـم ‭ ‬ويلك‭ ‬من‭ ‬روع‭ ‬المحـبـين
‭ ‬فرقت‭ ‬جمعاً‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬مثلهـم ‭ ‬بين‭ ‬دروب‭ ‬الروم‭ ‬والصين
ن‭ ‬لاحظ‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬المغنيات‭ ‬اللائي‭ ‬اشتهرن‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬جميلة‭ ‬كن‭ ‬يزرن‭ ‬مكة‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬مواسم‭ ‬حجها،‭ ‬وقد‭ ‬ذهبت‭ ‬جميلة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المواسم،‭ ‬وكان‭ ‬معها‭ ‬الفرِهة‭ ‬وعزة‭ ‬الميلاء‭ ‬وحبابة‭ ‬وسلامة‭ ‬وعقُيلة‭ ‬والشماسية‭ ‬وفرعة‭ ‬وبلبلة‭ ‬ولذّة‭ ‬العيش‭ ‬وسعيدة‭ ‬والزرقاء،‭ ‬ثم‭ ‬خمسون‭ ‬قينة‭ ‬لأهل‭ ‬المدينة‭…(‬1‭) ‬وكان‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭ ‬يمتلك‭ ‬جاريتين‭ ‬مغنيتين‭ ‬هما‭ ‬بغوم‭ ‬وأسماء‭ ‬ويقول‭ ‬أبو‭ ‬الفرج،‭ ‬وقد‭ ‬عرض‭ ‬لموكب‭ ‬جميلة‭ ‬حين‭ ‬حجت،‭ ‬إنه‭ ‬استقبلها‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القيان‭.‬


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة