الحج في القرون الأولى من الإسلام، لم يكن بهذه الصرامة، ولا الرهبة، والانضباط، ولا الشعور بالطاقة الروحية الهائلة للمكان، فضلاً عن ضعف التنظيم في ممارسة الشعائر والمناسك، وليس ثمة حضور قوي من قبل المؤسسة الدينية في إدارة مشهد الحج، كذلك لم يتدخل الخلفاء الأمويون أو العباسيون بهذا الشأن، بل ما كان يمارس في الحج من طقوس ما هو إلا امتداداً لما كان يمارسه العرب في أثناء الحج الجاهلي، إذ كان الجاهليون مثل غيرهم من الساميين يستخدمون الغناء في عباداتهم، مع بعض آلات الطرب، وذلك تعبيراً عن بهجتهم وسرورهم بتعبدهم للآلهة وتقرباً إليها بهذا الغناء الذي يدخل السرور إلى نفوسها. إن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت يصفرون ويصفقون…ففي القرآن الكريم: (سورة الأنفال (35)﴿وما كان صلاتُهُمْ عِند الْبيْتِ إِلّا مُكاءً وتصْدِيةً فذُوقُوا الْعذاب بِما كُنتُمْ تكْفُرُون﴾ ورد في المستدرك عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: كانت المرأة تطوف في البيت وهي عريانة، فتقول: منْ يُعيرني تطوافاً؟ تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله
فما حدث من تغيير في مناسك الحج إلا أمور شكلية فغالبية ما كان يحدث أيام الحج في الجاهلية انتقل إلى ممارسة الحج في الإسلام إذ بعد إقامتهم الشعائر الدينية المفروضة وبعد أدائهم القواعد المرسومة، إلى الفرح والسرور والرقص ليدخلوا السرور إلى قلوب الأرباب، ففي الحج إذن شعائر دينية وعبادة تؤدى، واجتماع وحبور.
فالحج إلى مكة ما هو إلا أعياد يجتمع الناس فيها للاحتفال معاً بتلك الأيام، وهم بذلك يدخلون السرور على أنفسهم وعلى أنفس آلهتهم. (3) ولما كان الحج عيد من أعياد الجاهليين. فلا غرابة من تخلل مواسم الحج مشاهد الغناء أيام الحج في بداية الإسلام عبر قرونه الأولى، إذ ذكر الغزالي وكذلك في كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب «حيث كانوا يدورون أولاً، في البلاد بالطبل والغناء وذلك مباح لما فيه من التشويق إلى الحج وأداء الفريضة وشهود المشاعر…» فإن الشعراء والمغنيين كانوا يعدونها أياماً احتفالية حتى إن الشاعر عمر بن ربيعة يرى في الحج فرصة هائلة لاستعراض الفتيات والنساء ممّن اشتهرن بالجمال في بلدانهن أو في أنحاء العالم الإسلامي، وكان يجد في تتبعهن واستعراضهن لذة لا تقدر، ولعل ذلك ما جعله يقول:
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا كل يومين حجةً واعتمارا
إذ إنه كان يقدم الأشعار للمغنيين يتغزل فيها ممن تأثر بهن من الحسان فيلحنونها ويغنونها. (1) ومما يذكر أنهم كانوا يفتنون الناس بغنائهم في موسم الحج ومن هؤلاء المغنيين الغريض وهو يغني الناس في المزدلفة ويحبسهم عن مناسكهم، وكذلك يفعل ابن سريج يغني فيجعل الحجيج يركب بعضهم بعضاً-من شدة الزحمة والتدافع للسماع-حيث كان المغنون يتخذون ما يشبه المنصات الترابية فيتزاحم الناس حولها من أجل الاقتراب أكثر منهم، وهذا ما كان يفعله أيضاً ابن عائشة وغيره. فما كان يحدث من غناء ما هو إلا ممارسة اجتماعية عادية وتقليدية جداً لا تثير حفيظة الحاكم ولا الضغط الاجتماعي ما يعني ليس هناك من تحريم للغناء، وإلا بماذا نفسر هذه المهرجانات الغنائية في مكة وفي أثناء مناسك وشعائر الحج، ولا يتخطى الأمر حتى الخلفاء إذ سمعوا الغناء أثناء حجهم.
فيقال بهذا الصدد: إن يزيد أخاه حج بالناس وسمع غناء ابن سريج فأعطاه حلته وخاتمه. ويروي أبو الفرج أن سليمان أخاه حج فسبق بين المغنين ببدرة والبدرة: كبس فيه ألف درهم أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار، ونال الجائزة ابن سريج.
ويقال: إن الوليد بن يزيد أنه حج، وبينما هو يسير ليلة في معسكره، وإذا بصوت جميل، فأشار لبعض من معه أن يقول: أعد الصوت، فقال المغني: لا والله إلا بالفرس الأدهم بسرجه ولجامه، وأربعمئة دينار، فنودي أين منزلك؟ ومن أنت؟ فقال: أنا الأبجر، وكان الأبجر يعترض بغنائه الحجاج على عادة المغنين في مكة.
وكان الحجاج يقضون أوقاتهم ولياليهم الطويلة بعد انصرافهم من مناسك الحج بالسمر ويغنيهم من حين إلى حين مغنٍ أو مغنية بشعر عمر وأصحابه المكيين. وحين حج ابن رامين-أكبر تاجر للقيان في الكوفة-أخذ جواريه معه منهن سلامة الزرقاء وربيحة وسعدة اللواتي اشتراهن من المدينة، وكان أهل الكوفة يغشون منزله ويستمعون لقيانه، وبعد ذهابه بصحبتهن علت حينئذ الحسرات نفوس أهل الكوفة وأفئدتهم:
أية حال يا بـن رامـين حال المحبين المساكين
تركتهم موتى ولم يتلفوا قد جرعوا منك الأمرين
وسرت في ركب على طية ركبب تـهـام ويمـانـين
يا راعي الذود لقد رعتهـم ويلك من روع المحـبـين
فرقت جمعاً لا يرى مثلهـم بين دروب الروم والصين
ن لاحظ أن أكثر المغنيات اللائي اشتهرن في دار جميلة كن يزرن مكة وخاصة في مواسم حجها، وقد ذهبت جميلة في أحد المواسم، وكان معها الفرِهة وعزة الميلاء وحبابة وسلامة وعقُيلة والشماسية وفرعة وبلبلة ولذّة العيش وسعيدة والزرقاء، ثم خمسون قينة لأهل المدينة…(1) وكان عمر بن أبي ربيعة يمتلك جاريتين مغنيتين هما بغوم وأسماء ويقول أبو الفرج، وقد عرض لموكب جميلة حين حجت، إنه استقبلها في مكة الكثير من القيان.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"