ربما ظَنت المنظِّرة السياسية، حنة آرندت، أن "تفاهة الشرّ"، الظاهرة التي خرجَت بها بعد تغطيتها جلسات محاكمة الضابط النازي أدولف آيخمان (1961)، الذي كان من أسباب إبادة ملايين اليهود، بعد أن كان مسؤولاً عن تنظيم نقلهم إلى معسكرات الاعتقال أوشفيتز، ربما ظنّت أن تلك هي الظاهرة الأغرب في فظاعتها، التي يمكن أن تُنتجها الأنظمة الشمولية، من ترسيخ عادية القتل واعتياديته فعلا والقاتل فردا.تضعنا هذه الأنظمة التي شرَحت منها آرندت النظامَين، النازي والستاليني، في كتابها عن الأصول الشمولية، تضعنا في هذا العصر أمام نسخةٍ جديدةٍ منها، وتتعايشُ مع الأنظمة ذاتها التي تَدّعي وتدعو إلى حقوق الإنسان، مُخرِجَةً ظاهرة أغرب في فظاعتها من التي توصّلت إليها آرندت، محورها أنَ التمرّد على تلك العادية والاعتيادية في القتل، ومحاولة التغلب عليها والخروج منها، هو ما بات مُداناً ومحطَّ تجريم!لم تُطلق آرندت هذا الوصف لتخفيف عبء ما قام به الضابط النازي، بل لتوضح مدى التدهور الأخلاقي الذي سبّبته النازية، ليس في ألمانيا فحسب، بل في المجتمعات الأوروبية كذلك، والذي تبلور بالقيم الجديدة التي عَمِل النظام النازي على زرعها، وتنصيبها مرجعية ومُحَكِّمة للفعل والسلوك، تمحور جُلّها في اعترافات الضابط آيخمان، حول الولاء للشرف العسكري وللقَسَم، الذي كان السبب وراء طاعته الأوامر، من دون أن يُفكر في ماهيّة ما أقدم عليه، خيراً كان أم شرّاً، وليقتصر دفاعه بقوله: "ولائي هو شرفي".بعد عملية طوفان الأقصى، وَجدنا أنفسنا أمام ردّاتِ فعلٍ دولية، رسمية وإعلامية، تَجهَد وتحشد لتصوير الظلم الواقع على الإسرائيليين، وكأنّ الفلسطينيين كائناتٌ فضائيةٌ غزت الأراضي التي يقبع فيها هؤلاء الإسرائيليون ليقتلوهم ويأخذوا أرضهم!
في مشهدٍ ينمّ عن القدرة على تزوير التاريخ، ليس البعيد منه، بل وحتى القريب، يتم التعامل مع عام 1948، وكأنه تاريخٌ موغلٌ في القِدَم، يحتاج الكثيرَ من المراجع والأبحاث والدلائل، لإثبات الحق الفلسطيني وطبيعية وحتمية المقاومة بوصفها صيرورة وليست ضرورة فحسب، ورأينا وسمعنا كيف جَهد السفير الفلسطيني في بريطانيا، حسام زملط، لإثبات الحقّ الفلسطيني في الدفاع عن أرضه وعن نفسه، بعد ما تعرّض له من قتلٍ وتهجير منذ ذلك العام.يضعنا تركيز الإعلام الغربي على الضحايا الإسرائيليين، من دون التعرّض، ولو بالإشارة إلى ما يسقط من فلسطينيين من ضحايا طوال العقود الماضية أو يسقطون حاليا، أمام مطالبة لمساواة الضحايا أمام القتل، وألا يكون السؤال المركزي مَن الذي يُقتَل! تقول آرندت: "جوهر الشر، متعلق بجعل الناس مُهمّشين وبلا قيمة، والنظام النازي في معسكرات الإبادة، كان يعمل على إقناع المساجين أنّ لا أهمية لهم قبل أن يقتلهم".ينطلق الوضع الذي فرضته إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزّة من الجوهر القيمي ذاته الذي تم التعامل به في معسكرات أوشفيتز، وأدّى إلى إنتاج عادية القتل واعتياديته فعلا والقاتل فردا، وهو جوهر يتم العمل على إنتاجه من خلال أمرين متواجهين: الأول، تفريغ النظام النازي الأفراد التابعين له من كينونتهم الفردية، القائمة على المُحاكمة الإنسانية والقيمية للفعل، التي هي أساسُ التمييز بين الخير والشر، وإحلال، بدلاً منها، قيم جديدة تتبع النظام، وبذلك تحوِّل الفرد ليس إلى جزء من النظام وأداة له فحسب، بل إلى نظامٍ مُصغّر من النظام الشامل. وبهذا المعنى، نكون في الأنظمة الشمولية أمام مجموعة نُظم، تتّسع وتتّحد مع أنظمة أخرى شبيهة، تُشَكِل النظام الأشمل. الأمر الثاني الذي لا بدَ من تحققه لتحقيق "تفاهة الشر" تكريسُ فكرة تفاهة الحياة، والذي يكون الوجه الآخر لتفاهة الشر، والمتضمّن ثقافة الموت المُضادّة لثقافة الحياة. إذ بعد تفريغ الفرد من كينونته، وسلبه القيَم المعيارية لمحاكمة الفعل الذي يقوم به أو مُطالَب بالقيام به، وبعد إحلال قيم النظام الشمولي، لا بدَ من تتفيه حياة الآخرين (جعلها تافهة) بتفريغها من قيمها البسيطة الطبيعية، مقابل القيم الكبيرة التابعة للنظام الشمولي، مثل الشرف والعَظَمة والخيانة وقدسية الواجب، أو حتى الحقّ المقدّس، لتمتلك هذه القيم المعيارية الكبيرة مُبرّرات القتل، وليتعدى كونه مساقاً طبيعياً ويصبح ضرورة.
عَمِل الكيان الصهيوني على ترسيخ فكرة "اللاقيمة" لحياة الفرد الفلسطيني، من خلال تفريغ الحياة التي يعيشونها من مظاهر الحياة الرئيسية والطبيعية لهم ولأي حياة والسيطرة والتحكم بها، لتأتي بعد ذلك مطالبات الفلسطينيين بتلك المظاهر، في صورة الخروج عن الطبيعي والتمرد الذي يستحقّ العقاب!من الطبيعي أن تلقى عملية طوفان الأقصى هذا الرد من إسرائيل والقوى الداعمة لها، إذ من منظورهم، هي عملية تمرّد على القيم المعيارية التي جَهِد الكيان الصهيوني منذ نشوئه على ترسيخها، لتأتي العملية وتُمزقها، وتقول إنَ حياة الفلسطيني ذاتُ قيمة، تتساوى مع حياة الآخرين، ومعسكر قطاع غزة لن تكون نهايته كنهاية معسكرات أوشفيتز، والحلّ التعويضي الذي قُدِم لليهود بإعطائهم أرضَ فلسطين بعد أن كانوا الضحية لن يُقابَل بالحلّ نفسه، بعد أَخذ بعضهم دور القاتل.قالت أرندت عن محاكمة الضابط أدولف آيخمان "ظننتُ أن المهمّة أنَ المحكمة أرادت تحقيق العدالة"، لكن هذه الجريمة لا يمكن إيجادها في كتب القانون، إذ كان على المحكمة أن تُعَرِف الضابط، على أساس أنه شخص يُحاكَم على أفعاله. ... ربما تكون هذه المشكلة الحقيقية والأكبر التي تواجهنا أننا فعلاً بتنا أمام مجموعةٍ من الأنظمة تصغر وتصغر حتى تصل إلى صيغة فرد، ليكون نفسُه جزءاً مصغّراً عن النظام الكلّي الكبير. والأسوأ أنَ هذه الأنظمة المُصغّرة قد توجد في أي مكان وضمن أنظمة أخرى أيضاً، ومن الواضح أننا بتنا بحاجة إلى قانونٍ دوليٍ جديد، يتضمن كيفية محاكمة هذه الأنظمة بعد قتل الأفراد فيها.