كان اليوم العشرون من شهر آذار 2003 خميساً. قصتي تبدأ تحديداً من الخميس الذي سبقه.
كنت طالباً جامعياً في النصف الثاني من سنته الأولى في جامعات بغداد عندما أصبح سقوط النظام واقعاً لا أحد يعلم متى سيحدث، لكن الجميع يعلم يقيناً بأن الأمر أصبح حتماً مقضياً.
ولأن أهلنا علمّونا أن جدران الأقسام الداخلية لها آذان، ولأننا سمعنا عن زميلين أخِذا من داخل الجامعة إلى حيث لا يعلم أحد لأنهما تحدثا عن “حرب”، ولأننا نعلم بأننا -طلبة المحافظات القادمين من الجنوب- سنكون الضحية الأسهل لإدامة ثقافة الخوف، فقد اتفقنا (دون أن نتفق فعلاً) على عدم التطرق لهذا الموضوع البتة، وان نعيش حياتنا المعتادة في الدراسة والطبخ والتنظيف والتدخين والتجول بشكل محدود في مناطق بغداد القريبة بانتظار ما سيؤول إليه أمر تلك التي يجب ألا نذكر اسمها.
في ذلك الخميس الذي سبق خميس الحرب – وها أنا أذكر اسمها لكسر حاجز الخوف – كنت قد عدت إلى بيت أهلي في النجف حاملاً أغلب أغراضي المهمة -وما أقلّها في ذلك الوقت- حاسماً امري بعدم العودة إلى بغداد والجامعة حتى يبدأ الغزو المتوقع، أو يحدِث الله بعد ذلك أمراً. نعم، فترقين قيدي من الجامعة أهون من الاختفاء في غياهب الشعبة الخامسة، وأنا الذي لا يملك ظهراً ولا عماداً في ذلك العراق – ولا في هذا العراق والحمد لله – فأبي ظل “مستقلاً” حتى تقاعد من سلك التعليم، وأخي الأكبر خضع لتحقيق أمني يتعلق بـ “سلامته الفكرية” عندما آثر الدخول إلى كابينة التصويت في انتخابات ٢٠٠٢ بدلاً من تأشير “نعم” كما فعل الآخرون بفخر أمام عيون البعثيين ورجال الأمن. أما أنا، فقد رفضت -بتهوري الصبياني- الاشتراك في تدريبات “يوم النخوة” أيام الاعدادية فمزق مسؤولي الحزبي ملف انتمائي أمام زملائي، موصياً إياهم بأن يبلغوني بأنني قد أصبحت “لا منتمي” على حد وصف كولن ويلسون الذي لم أكن أعرفه في ذلك الوقت.
وبالعودة إلى سبب هروبي من الجامعة في ذلك الوقت، فالموضوع ببساطة هو أنني كنت أتقن استعمال برنامج حاسوب تافه اسمه ملتيميديا بلدر MMB. يبدو الأمر عبثياً كعبثية حديثي عن إتقاني لهذه البرامج وأنا الذي لم أمتلك حاسوباً إلا بعد سنة تقريباً من ذلك الهروب. وأسميه هروباً لأنه كاد في مرحلةٍ ما أن يشابه هروب آندي دوفرينس من سجن شاوشانك، مع فرق بسيط هو أن هروبي كان ليكون من شباك الطابق الثالث من بناية مختبرات الجامعة، بدلاً من نفق آندي المحفور بملعقة.
إن وصلتم إلى هنا فعلاً، فهذا يعني بأنكم تريدون الاستمرار فعلاً ومعرفة القصة بحذافيرها وها هي لكم كما تحفظها ذاكرتي وبدون مساعدة من تشات جي بي تي، فهو لم يدرك تلك الأيام ولا أظنه يريد ذلك:
تعود القصة لليوم الذي كتب فيه أستاذ مادة الحاسوب سؤالاً على السبورة متحدياً الجميع بأن من يستطيع حلّه سيحصل على ٣ درجات على المعدل النهائي، وعندما حاول اثنان وفشلا رفع أستاذنا المتحمس التحدي إلى ٥ درجات ولكن مع خصم ٣ من سعي الطالب الحقيقي في حال فشله، فهدأت الأصوات ونزلت الأيدي ولم يبق إلا إياي. لم يكن السؤال مخيفاً لتلك الدرجة فهو بالنسبة لي جزء من عملي في العطلة الصيفية في "فرمتة" وتجهيز الحواسيب باستخدام أم أس دوس، ولم يصدق الأستاذ الذي كان ذا باعٍ في هيئة التصنيع العسكري قدرتي على حل سؤاله الجبار، فدار بيننا بعد المحاضرة حديثٌ مطول سمح لي بكرم أخلاقه بعدها أن أستخدم مختبر الحاسوب في أعلى بناية القسم في أي وقت أريد دون قيدٍ أو شرط، وبالنتيجة فقد أصبحت أيضاً صديقاً للمعيدة الطيبة السريرة المسؤولة عن المختبر التي سمحت لي وقتها بتنصيب بعض برامجي على حاسوب محدد أصبح مخصصاً لي لاستخدمه في القراءة والتعلم وتصميم مجلة "سِفر العلوم" التي كنت مؤسسها ورئيس تحريرها ومصممها وكاتب جميع مقالاتها.
قبيل نهاية الفصل الأول، دار بيننا نحن الثلاثة حديث في المختبر كنت أتأبط فيه كتاب دوان لوز الرائع "ورشة عمل ثري دي ستوديو ماكس"، وثري دي ماكس هو برنامج كنت قد قررت بأنه يجب عليّ إتقانه قريباً جداً بدلاً من MMB – وشتّان بين الاثنين – لأصبح قادراً على انتاج مقاطع إعلانية تشتريها مني "قناة الشباب" بأسعار خيالية حسب ما سمعت في وقتها. في شجون ذلك الحديث، اقترح الأستاذ -بعد أن تحدثت له مسؤولة المختبر عن إمكانيات برنامج MMB ومهارتي فيه وجعلتني أريه شيئاً منها- أن أتولى إدارة الجانب التقني من برنامج يوم الجامعة الذي يتوقع فيه حضور "السيد الرئيس القائد المجاهد صدام حسين (حفظه الله ورعاه) [تصفيق]" أو من يمثله [دون تصفيق] إلى الجامعة. لم يكن الرفض خياراً طبعاً، لذا فقد بادر الأستاذ باقتراح بعض الأسماء ليكونوا شركائي في تنفيذ المشروع، وجلهم كانوا من محدودي المهارة التقنية.
باشرنا بالعمل على المشروع فأعددنا بعض التصاميم ولأن اليوم المتوقع كان في نيسان وقد دخلنا في كانون الأول، فقد أوقفت العمل على "سفر العلوم" وأعدتُ كتاب دوان لوز إلى مكتبة الجامعة، وهجرت أصدقائي للحاق بالوقت وإنجاز ما يليق باستقبال سيادة الرئيس.. لكن هيهات! فقد غرقنا في دوامة الامتحانات وبدأ الرفاق الذين كانوا جميعاً من العاصمة، بالتسرب تباعاً، وبقيت أحاول إقناع نفسي خوفاً وطمعاً بأن أكمل التحضيرات لليوم الموعود، حتى تأكدت حتمية الحرب في وقتٍ ما بين شباط وآذار.
كانت الحصة الأولى من ذلك الأربعاء الذي سبق خميس سفري إلى النجف، مخصصةً لمادة "مختبر الحاسوب". كان الطلاب الحاضرون في المختبر خليطاً من جميع الفروع العلمية في القسم فقد كنّا ندرس نفس المادة، وبدأ درسنا المعتاد حول ما لا يمكنني تذكّره حالياً، لكنني أتذكر جيداً كيف دخل الأستاذ إلى المختبر مندفعاً ليقاطع الدرس ويحيل مسار الحديث إلى مشروعنا المنتظر. طالبنا أو طالبني تحديداً بعرض تقدم المشروع أمام الجميع. ولأن من الحضور من لا يربطني به حتى السلام، ولأنني لم أكن أمتلك شيئاً ملموساً لتقديمه فقد تلعثمت وأخذت أحاول وضع بعض المواعيد الوهمية، لكن الأستاذ قال بحزم لم يكن معتاداً منه في ذلك الوقت بأننا يجب أن نكون جادين أكثر خصوصاً أن الموضوع يتعلق بزيارة السيد الرئيس إلى الجامعة، ثم قال آمراً: "أريد أن أرى مشروعاً جاهزاً لنعرضه يوم الاثنين القادم". وقبل أن أقول شيئاً أو يرتد إليّ طرفي، التفت أستاذنا إليّ بابتسامة غريبة قائلاً: "يبدو أنك غير مقتنع أصلاً بأن صدّام سيبقى رئيساً حتى الاثنين القادم!".
من عاش في ذلك العراق سيعرف مدى خطورة هذا الاتهام وفداحته، فوجم الجميع ولم يبق إلا صوت مراوح حواسيبنا البنتيومية الهادرة، ومن ثم ضحك أستاذنا ضحكة عصبية وغادر مسرعاً وكأنه أحس بعظم جريرته التي اقترفها بحقي، بحق نفسه، أو بحق كلينا. كان بودي أن أكتب هنا بأنني قد عدت بعدها للقسم الداخلي وجمعت أغراضي وعدت إلى النجف لتنتهي القصة حيث بدأت، لكن ما حدث بعد ذلك كان أدهى وأمر. إذ قررتُ أن أتغيب عن جميع محاضرات ذاك اليوم في مقابل بقائي بمختبر الحاسوب لإكمال ما يمكن إكماله من المشروع، ولم تمانع مسؤولة المختبر التي أحست بقلقي الشديد تجاه ما قاله الأستاذ، فاقترحَت في وقت ما أن تغادر المختبر وتغلق الباب من خلفها لتتركني أعمل على مشروعي بهدوء بعيداً عن ضجيج الطلبة، وهو ما حدث، لكن ما حدث بعدها لم يكن أبداً بالحسبان.
في ذلك الوقت كان يوم الأربعاء هو اليوم الأخير من الأسبوع الدراسي، وهو اليوم الذي نغادر فيه نحن طلاب المحافظات عائدين إلى أهلينا لنتزود بالمال والقوت ودفء العائلة حتى عودتنا للقسم مساء يوم الجمعة. ولأن موعد مغادرتنا الأسبوعي هو الساعة الثانية من ظهر كل أربعاء فقد قررت مغادرة المختبر في الواحدة لكنني ولدهشتي وجدت باب المختبر مقفلاً من الخارج. هوّن دماغي من الموقف لدرجة أنني عدت إلى الحاسوب لإنهاء المزيد من الأشياء في انتظار عودة المعيدة لفتح باب المختبر، فليس من المعقول أن تنساني هنا وتعود إلى... تنساني؟ هل يمكن افتراض انها تحتجزني ريثما يصل من يتأكد من صحة ما قاله الأستاذ حول عدم اقتناعي ببقاء صدام.
ذعرت حينها دون داعٍ طبعاً لأنهم إن كانوا يريدون أخذي فسيأخذونني ولو كنت في بروج مشيدة، ولكن رهاب الاحتجاز وعدم امتلاك أي عراقيٍ في ذلك الوقت لما كان يسمى بالخلوي (الهاتف النقال) جعلني أفكر بالهرب من نافذة الطابق الثالث المطلّة على ممر ضيق. كانت النافذة سهلة الفتح، لكن الهرب منها يتطلب مهارات قططيةٍ في التسلق على بعض الأعمدة والنقوش وقفزة في النهاية قد تنتهي بكسر قدم أو ساق. لم أفكر طويلاً وباشرت بتسلق النافذة، لكنني سمعت بذات اللحظة صوتاً في الممر قرب الباب. أصخت السمع قبل أن أعطي إشارة على وجودي في الداخل للتأكد من أن القادم ليس من رجال الأمن أو الفدائيين وهو ما لم يكن والحمد لله.
لم يطل الأمر بعدها ليرسل أحدهم في طلب مسؤولة المختبر التي عادت ووجهها يختنق ضحكاً وخجلاً وهي تخبرني بأنها قد نست تماماً وجودي في المختبر.
لم أخبر اهلي وقتها عمّا حدث في ذلك اليوم، وبقيت أنصت إلى أخبار "هنا لندن" و"راديو مونتي كارلو" في انتظار إعلان الحرب. عندما أعلن الرئيس بوش يوم الاثنين منح صدام ثمانٍ وأربعين ساعة لمغادرة العراق، تعجبت مستذكراً كلام الأستاذ، وعندما استيقظت صباح يوم الخميس على خبر بدء الطلعات الجوية شعرت بسعادةٍ لم تدانيها سعادة إلا تلك التي حدثت بعد أقل من عشرين يوماً بسقوط صنم ساحة الفردوس، سعاداتٌ كدر صفوَها سوء الحكام اللاحقين، واستمرار موت العراقيين، وعدم حصولي على الدرجات الخمسة الموعودة.