يغضب المتأسلمون كلّما رصد باحث أخطاء تنظيمات ولدت في القلب العربي لكنها تدين بالولاء لقوى إقليمية خارج النسيج العربي، وخطاياها. مطلوب منك أن تكذب على نفسك وعلى الآخرين، وتقتنع بأن محور المقاومة لا يحقق سوى الانتصارات، وأن "حماس" انتصرت على إسرائيل، وأن إيران أقرب إلى الشعوب العربية من بلدانها، وأن تفخر بالتنظيمات المتأسلمة التي ولدت محلياً في دول عربية، أو تلك التي أنشأتها دول وقوى خارجية بين ثنايا المجتمعات العربية واستغلت الأوضاع الداخلية أو الظروف الإقليمية لتنفذ أجندات غير وطنية بالأساس، وهي حتى الآن تدّعي أن الربيع العربي كان سيأتى للعرب بالحريات والرفاهية والعدل والمساواة لولا مؤامرات الأنظمة، وتنظر حولك فلا تجد منها شيئاً داخل هذه التنظيمات وبين تعاملات تلك الجماعات. وأصبح مطلوباً من المواطنين العرب أن يصدّقوا أنّ التنظيم الدولي لـ"الإخوان المسلمين" مثلاً أو التنظيمات والأحزاب المرتبطة بإيران نقلت المجتمعات العربية من مرحلة التخلف إلى مرحلة التقدم، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العشوائية إلى النظام، ومن الخوف إلى الشعور بالأمن والسلامة، بعدما صارت إسرائيل تخشى "حماس" وأميركا ترتعد من إيران والغرب كله يعجز عن توقع نيات "حزب الله"! وأنّ "الإخوان" اقتربوا من تنفيذ الشعار الذي سرقوه من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ونسبوه لأنفسهم: "عالقدس رايحين شهداء بالملايين". الواقع يشير الآن إلى أن التنظيمات المتأسلمة في العالم العربي تحولت سرطاناً وجحيماً على الشعوب العربية، ووبالاً على القضايا العربية ومساهماً جيداً في تحقيق الأهداف التي سعت إسرائيل إلى تحقيقها طويلاً وعجزت عن بعضها، لكن جرائم المتأسلمين وجهودهم في تفتيت المجتمعات العربية ساهمت في تحقيقها. نعم كان الإرهاب موجوداً في المنطقة على مدى عقود، لكن ليس بالقدر الذي يهدد دولاً بالسقوط. وصحيح أن الجماعات الأصولية الراديكالية كانت منتشرة في أكثر من دولة، لكنها لم تتمكن قبل عواصف الربيع العربي من احتلال مدينة، أو السيطرة على دولة، أو إسقاط نظام حكم، أو التحكم في خلق الله. وصحيح أن الشعوب العربية كانت تعاني فقراً وجهلاً وتخلفاً على مختلف الصعد، لكنها كانت تحتفظ بالحد الأدنى من الأمان وأسس العيش ولو بالكاد، فجاء المتأسلمون ليفسدوا الاقتصاد ويضربوا السياحة ويشعلوا الفتن ويورطوا النظام العربي في أزمات داخلية ومعضلات خارجية. لم تكن الحياة وردية لكن الموت كان أقل احتمالاً، حتى تنظيم "الإخوان" الارهابي الذي سعى إلى القفز فوق الثورات وتصور أنها أتت في بعض الدول العربية من أجله فتحالف مع تنظيمات أخرى أكثر تطرفاً، بعضها مخالف لـ"الإخوان" في الولاءات والتحالفات والأفكار، ازداد تطرفاً بفعل الرفض الشعبي لتصرفات قادة التنظيم وجرائم عناصره، خصوصاً بعدما حكم "الإخوان" مصر بعدما كانوا في صفوف المعارضة، ففشلوا وفقدوا تعاطفاً من غير جماعتهم، فتحولت إلى تنظيم طالب للثأر ينسق مع أجهزة الاستخبارات لإفساد المجتمعات العربية. لا يمكن أن يجادل أحد، أو ينكر، أن الدول العربية تمر بفترة سيئة، إن لم تكن الأسوأ في تاريخها، وجرائم اسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة دليل على عجز العرب وقلة حيلتهم وفشلهم في ضبط إيقاع الفصائل الفلسطينية عموماً و"حماس" خصوصاً، وكبح جموحها، وفي الوقت نفسه ردع إسرائيل ومنعها من استهداف الفلسطينيين وقتلهم وتعطيش الباقين منهم وتجويعهم وترحيلهم، وليس سراً أن كل الأيدي الأجنبية تعبث في القلب العربي، بينما العرب عاجزون عن حل مشاكلهم، فلجأ بعضهم إلى دول أخرى، أو تنظيمات دولية، أو جهات خارجية، كي تحل المعضلات وتفك الطلاسم وتفسر الألغاز. صحيح أن غزة عكست أحوال العرب وضعفهم وغياب تأثيرهم، لكن تجدر الإشارة إلى أنه قبل هبوب الربيع العربي كان المجتمع الدولي يتدخل ليفرض حلولاً على دولة عربية، أو أكثر، بينها وبين دولة أخرى، أو أكثر، مشكلة أو خلاف أو نزاع، أما بعده فصار الأمر مرتعاً أمام الكبير والصغير، من الأمم المتحدة ومنظماتها إلى أصغر منظمة حقوقية أو قناة فضائية أو حتى موقع إلكتروني، لتقترح الحلول أو لتفرضها، وجاء العدوان الإسرائيلي على غزة ليؤكد ما هو مؤكد بالفعل ويثبت ما هو مثبت في الواقع. هل يعفي ما آلت إليه الأوضاع السيئة في العالم العربي الأنظمة التي حكمت عقوداً من المسؤولية؟ بالطبع لا، لكن ثبت بالأدلة القاطعة والحقائق الدامغة والواقع الذي لا يمكن إنكاره أن المتأسلمين العرب ارتكبوا أخطاءً وخطايا، وأن حساباتهم كانت ضيقة ومحدودة وقاصرة. لم يدركوا حين تحالفوا مع دول وجهات ومنظمات، أنهم تحولوا إلى مجرد أدوات ضمن لعبة كبيرة لم يقدّروا حجمها أو خطورتها، فأساؤوا إلى الثورات والربيع وكل الفصول. على مدى عقود خدع "الإخوان" الناس بادعائهم الاهتمام بالتربية، لكن اكتشف الناس أن ذلك كان فقط بين أعضاء التنظيم ليدينوا بالولاء والطاعة للمرشد، وتلبية كل طلب وتنفيذ كل أمر، بينما انشغل نجوم التنظيم في منصات الإعلام بتربية أنفسهم على التعامل مع الوسائط ومواقع التواصل، والظهور في البرامج والفضائيات، والهتاف في المنتديات وأمام السفارات وسبّ كل مخالف في الرأي أو الموقف. محاولات المتأسلمين العرب استغلال الحرب الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني في التحريض ضد الأنظمة وتفتيت المجتمعات والإساءة الى الجيوش الوطنية وتعظيم الميليشيات والسعي إلى تحريك الناس وكسب ولائهم لن تتوقف، وإذا لم تتحقق الآن فيجب استثمار جرائم اسرائيل لتحقيق الأهداف ذاتها في المستقبل، وإذا كان الوقت الحالي غير مناسب لاستخدام الخطاب الديني، وإن كان اللعب على المشاعر الوطنية والدوافع الانسانية والارتباط التاريخي بين المواطن العربي وقضية فلسطين مجال أكثر رحابة يعيد المتأسلمين إلى واجهة الأحداث، فعلى التنظيمات استثمار مناخ كهذا من أجل المستقبل، فالهدف لن يتغير: تحقيق الأذى للمجتمعات العربية بالانفلات والانفكاك والانهيار! * نقلا عن "النهار"
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"