ان من اهم ما يميز تغير المجتمع الإنساني عن غيره هو مايتم بشكل دائم ومستمر، سواء ما تعلق بسلوكيتة التي تتغير من جيل لآخر ومن فترة لأخرى أم بواقعه العمراني الذي يشمل شتى نظم الحياة الاجتماعية، نتيجة التفاعل الحاصل بين أفراد المجتمع الواحد ثم بين المجتمع ككل وبين باقي المجتمعات الأخرى، ما أسماه عالم الاجتماع الفرنسي أوكست كونت في بداياته التأسيسية للسيسيولوجيا بالفيزياء الاجتماعية، للتشابه الواقع بين العمليات التفاعلية لكل من مكونات المادة الطبيعية والظاهرة الاجتماعية، فإذا كانت الفيزياء الطبيعية تدرس مكونات المادة وتفاعلها فيما بينها وتخلص في الأخير إلى قوانين طبيعية دقيقة فإن السيسيولوجيا تدرس مكونات المجتمع وتفاعلها مع بعضها البعض مبرزة فيها عوامل التأثير والتأثر، وكيف تتشكل تلك ظواهر والنظم وعلاقات اجتماعية متناسقة ومتكاملة فيما بينها لدرجة أن كلا منها جزءا لا يتجزأ في بنية الأخرى، وتحاول في النهاية أن تزيل الستار عن القوانين الخفية التي تحكم تلك الظواهر والنظم والعلاقات، مما يخول للفرد أن يتحرر من سلطة مجتمعه إلى حد ما بدل الخضوع لها بالمطلق. وتشهد مجتمعات العالم منذ ما يزيد على قرن تغيرات واسعة وحثيثة، وإن كانت متفاوتة في حدتها. وتتميز هذه التغيرات بأنها أنهت أساليب حياة كانت قائمة لقرون، بما تعنيه عبارة «أساليب حياة» من أنماط عمل وطرق تواصل وسبل تنظيم ومعايير وقيم وخلاف ذلك. انتهت الأساليب القديمة وحلّت مكانها أساليب حياة تتجه شيئاً فشيئاً لأن تكون متشابهة أكثر عبر العالم، وهذا أحد مظاهر «العولمة». ويشارك علم الاجتماع في دراسة هذه الظاهرة، أي التغيرات المستمرة، عبر مفهوم متخصص يسمى «التغير الاجتماعي» (Social Change). فما المقصود بالتغير الاجتماعي؟ تفاعلات يومية يُقصد بالتغير الاجتماعي التبدل العميق والمستمر في البناء الاجتماعي. أي، تغيرات في المعايير التي تحدِّد ما هو مقبول وغير مقبول في تفاعلاتنا اليومية، وكذلك تغيرات في الرموز الثقافية ومنظومات القيم ومؤسسات المجتمع، سواء أكانت مؤسسات رسمية، كمؤسسات التعليم مثلاً، أو مؤسسات غير رسمية، كمؤسسة الأسرة. ولو اتجهنا إلى مجتمع في عالم اليوم فسيسهل علينا ملاحظة شواهد على هذا التغير. أي إن التغير الاجتماعي اليوم يعم العالم وبدرجات متسارعة. فما الذي جعل التغير بهذه العمومية ان التغير كميزة لطبيعة الإنسان الاجتماعية: من أكبر ما يميز جانب الإنسان الاجتماعي عن جوانبه الأخرى هو تغيره، فالكائن الإنساني من حيث مكوناته النفسية والبيولوجية ثابت لا يتغير بتغير الزمكان، فلا فرق بين إنسان الماضي وإنسان الحاضر وإنسان المستقبل من هذه الناحية، لكن من حيث مكوناته الاجتماعية والثقافية يختلف باختلاف الزمكان واختلاف المكتسبات التي حصَّلها عبر أطوار تنشئته الاجتماعية، وهذا ما جعل الباحثين يطرحون سؤالا إشكاليا في هذا الصدد، مفاده إذا كان الإنسان تتقاسمه أجزاء طبيعية ثابتة وأجزاء مكتسبة متغيرة، فما هي حدود كل من الطبيعي والمكتسب؟ وهل هي حدود قارة أم متداخلة فيما بينها؟ وما هي خصائص كل من الثابت والمتغير؟ وهل هناك معايير للفصل بين التغير المشروع من غير المشروع؟ وكذلك التغير الاجتماعي كظاهرة سوسيولوجية: قد لقي التغير الاجتماعي إقبالا كبيرا من قبل الباحثين المهتمين بهذا المجال، لما يحدثه من فوارق شاسعة في البنى الفكرية لأجيال المجتمع التي تعد أبناء بيئتها الاجتماعية من الدرجة الأولى، لأن كل إنسان إنما هو ابن بيئته كما أكد ذلك غير واحد من علماء الاجتماع، وكما يقول كارل ماركس: «وجود الإنسان هو الذي يعين فكره، وليس فكره الذي يعين وجوده» فإذا ما طرأ تغيير ما على الواقع العمراني فإنه يتسرب بالضرورة إلى الواقع الذهني، كما أن التغيير الذي يحصل في هذا الأخير بدوره ينعكس على المجتمع في حُلّة مغايرة، فيُحدث زعزعة في مختلف البنيات الاجتماعية التي تتطلب شيئا من الركون والاستقرار، بل قد يؤدى أحيانا إلى احتدام صراعات متواصلة بين أفراد المجتمع. الجيل الجديد ينكب على كل شيء جديد، لا يهمه فيه جودته ولا صلاحيته بقدر ما يهمه كونه جديدا عليه وعلى مجـــــــــــتمعه، لأنه يرى فيه تميزه واستقلاليته ومستقبله وذاته كلها لكن يبقى الإشكال المطروح هنا: أي نوع من التغير هو الأسبق إلى الوجود؟ هل التغير على المستوى الفكري أم على المستوى العمراني؟ أيهما يمتلك البادرة في حصول التغيير في المجتمع؟ والحقيقة أن بين هذين المتغيرين تداخل وطيد يصعب معه تحديد أي منهما له البادرة في التغيير الاجتماعي، لكن يمكن القول إن التغير الفكري يمكن اعتباره سابقا للوجود من حيث تعلقه بالفرد باعتباره أحد مكوِّنات المجتمع، كما أن التغير العمراني يمكن إرجاع سبق وجوده إلى المجتمع باعتباره مكوَّنا من عدة أفراد تجمعهم روابط معينة، بمعنى أن الفرد في الغالب لا يمكنه أن يؤثر على المجتمع إلا إذا تكلف ذلك وكان ذا حظوة سياسية أو اجتماعية.. لكن المجتمع يؤثر على الفرد بشكل تلقائي وبدون تكلف منه، مما يجعلنا أن نستنتج مسألة مهمة مفادها: كلما تغير الواقع الاجتماعي إلا وتغير معه الواقع الذهني للفرد والجماعة، وكلما تغير الواقع الذهني للجماعة أعقبه تغير الواقع الاجتماعي، لكن ليس كلما تغير الواقع الذهني للفرد تغير معه الواقع الاجتماعي، لأن المجتمع يبقى أقوى. وبعض عوامل التغير الاجتماعي: قد اعتبر بعض السوسيولوجيين أن جل عوامل التغير الاجتماعي ترجع لما يعرفه المجتمع الإنساني من التراكمات المعرفية التي تخلفها التجارب والاكتشافات البشرية جيلا بعد جيل، وكذلك التدافع الحضاري بين الأمم والشعوب، إضافة لظاهرة التقليد كما عبر عنها ابن خلدون بقوله: «المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»، لذلك كان من المهم الإشارة إلى أن التغير الاجتماعي لا يتخذ شكلا تصاعديا دائما كما قد يعتقد البعض، بل يمكنه أن يكون على شكل تنازلي عكسي، لأن المحدد لطبيعة وجهته لا يكمن في ذاته وإنما في ذات العوامل والقوى المؤثرة فيه. كما ان التغير الاجتماعي كعامل أساسي في ظاهرة صراع الأجيال: يعرف الجيل على أنه فترة زمنية ما بين ولادة الآباء وولادة أبنائهم، وبما أن سن الزواج في الغالب يتراوح ما بين 25 سنة و 35 سنة فإن غالب المجتمعات لا تخلو من جيلين نشيطين على الأقل، والملاحظ أن كل جيل بات مغمورا في عالمه الضيق لا يكاد يفهم شيئا عن عالم الجيل الآخر، بل حتى الآباء لم يعودوا يفهمون أبناءهم، كما أن الأبناء لا يفهمون آباءهم، خصوصا بعدما ساهمت الثورة التكنولوجية الراهنة بشكل ملفت في ارتفاع وتيرة التغير الاجتماعي، مما زاد تلقائيا في توسيع الفجوة بين الأجيال، ومن ثم نشبت الخلافات والصراعات بينهم؛ فالجيل القديم يتشبث بكل الأشياء والأفكار والسلوكيات القديمة، لأنه ألفها وعايشها آباءه وأجداده، فلا يستطيع أن يتخلى عنها رغم ما قد تكون عليه من فقد صلاحيتها ومصادمتها للواقع، لذلك نجده يقاوم من أجل بقائها بكل ما يملك من قوة، وربما قد يتهم من يخرج عنها من أبناء الجيل الجديد بالميوعة والانحلال من قيود الدين والأخلاق.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"