27 Jan
27Jan

‬يسرف‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬التبشير‭ ‬بالمدنية‭ ‬كعلاج‭ ‬مؤكد‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬أزماتنا‭ ‬المستعصية‭. ‬ويرى‭ ‬أنها‭ ‬البديل‭ ‬الموضوعي‭ ‬للانتماءات‭ ‬الطوعية‭ ‬واللاطوعية‭ ‬التي‭ ‬تبناها‭ ‬الناس‭ ‬منذ‭ ‬القدم،‭ ‬ودافعوا‭ ‬عنها‭ ‬بحرارة‭. ‬وهي‭ ‬الكفيلة‭ ‬بخلق‭ ‬عالم‭ ‬جديد،‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬الإحن‭ ‬والخطوب‭. ‬وتطرف‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬أن‭ ‬التماسك‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬شهده‭ ‬العرب‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬ظهورهم‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬التاريخ،‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬المدنية‭ ‬التي‭ ‬يحملونها‭. ‬وكانت‭ ‬ردءً‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬متبنيات‭ ‬تدميرية،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأمور‭! ‬
‭ ‬إن‭ ‬المشكلة‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬الجميل،‭ ‬الذي‭ ‬يبعث‭ ‬الراحة‭ ‬في‭ ‬النفوس،‭ ‬ويمنحها‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬بالطمأنينة،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬فكرة‭ ‬المدنية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬جزءً‭ ‬من‭ ‬الموروث‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬تمايز‭ ‬عقائدي‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬الواحد،‭ ‬أسفر‭ ‬عن‭ ‬خراب‭ ‬حضاري‭ ‬واضح،‭ ‬وقاد‭ ‬إلى‭ ‬حروب‭ ‬ومنازعات‭ ‬وثورات‭ ‬لا‭ ‬أول‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬آخر‭. ‬وكانت‭ ‬قوة‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬عززت‭ ‬رصيدها‭ ‬التهديدات‭ ‬الخارجية،‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬الوحدة‭ ‬في‭ ‬الامبراطوريات‭ ‬المتعاقبة‭. ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬وحكمت‭ ‬بمنظور‭ ‬طائفي‭ ‬أو‭ ‬قومي،‭ ‬مع‭ ‬استثناءات‭ ‬بسيطة‭.‬
‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬النموذج‭ ‬الغربي‭ ‬الذي‭ ‬تؤمن‭ ‬به‭ ‬النخبة‭ ‬العربية‭ ‬لتلافي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الخلافات‭ ‬العقائدية‭ ‬والمذهبية‭ ‬والسياسية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬هو‭ ‬نموذج‭ ‬غير‭ ‬مكتمل‭ ‬الأدوات‭. ‬فمازال‭ ‬هناك‭ ‬تمييز‭ ‬عنصري‭ ‬يختفي‭ ‬تحت‭ ‬نظام‭ ‬قانوني‭ ‬صارم،‭ ‬يظهر‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر،‭ ‬كلما‭ ‬استجدت‭ ‬معضلة‭ ‬من‭ ‬العيار‭ ‬الثقيل‭. ‬وأبرز‭ ‬من‭ ‬يمثله‭ ‬اليوم‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭.‬
‭ ‬والنموذج‭ ‬المدني‭ ‬كذلك،‭ ‬يفترض‭ ‬وجود‭ ‬ديمقراطية‭ ‬ناضجة‭ ‬تمنح‭ ‬الجميع‭ ‬فرصاً‭ ‬متكافئة‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬إدارة‭ ‬الدولة‭. ‬فالأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬الرؤى‭ ‬والأفكار‭ ‬التي‭ ‬تخص‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭. ‬وقد‭ ‬سمحت‭ ‬بظهور‭ ‬مجموعات‭ ‬ذات‭ ‬اتجاهات‭ ‬خطرة‭ ‬مثل‭ ‬الفاشية‭ ‬والنازية‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬وبشكل‭ ‬عام‭ ‬فإن‭ ‬الطابع‭ ‬المدني‭ ‬الذي‭ ‬يثير‭ ‬لدينا‭ ‬الإعجاب،‭ ‬ويجعلنا‭ ‬نتلهف‭ ‬على‭ ‬الأخذ‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬يحرز‭ ‬النجاح‭ ‬حينما‭ ‬يذعن‭ ‬الجميع‭ ‬لسطوة‭ ‬القانون،‭ ‬ولا‭ ‬يحاولون‭ ‬الالتفاف‭ ‬عليه‭. ‬وينساقون‭ ‬إلى‭ ‬إرادة‭ ‬الدولة،‭ ‬ولا‭ ‬يتجرأون‭ ‬على‭ ‬المساس‭ ‬بها‭. ‬وهي‭ ‬أمور‭ ‬طوعية،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬العالم‭.‬
‭ ‬لكن‭ ‬النظام‭ ‬المدني‭ ‬ذاته،‭ ‬بعد‭ ‬المذابح‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬البلقان،‭ ‬أقر‭ ‬بموضوع‭ ‬الهوية،‭ ‬واعترف‭ ‬بالثقافات‭ ‬الفرعية،‭ ‬وحذر‭ ‬من‭ ‬إلغاء‭ ‬الانتماءات‭ ‬العرقية‭ ‬والدينية‭. ‬وقد‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬احترام‭ ‬هذه‭ ‬الثوابت‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬اندلاع‭ ‬أعمال‭ ‬عنف‭ ‬داخلية‭. ‬مثلما‭ ‬أدت‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬الإطارية‭ ‬التي‭ ‬أبرمت‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬التسعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬إشاعة‭ ‬الاستقرار‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬أقليات‭ ‬صغيرة،‭ ‬نتجت‭ ‬عن‭ ‬تفكك‭ ‬الامبراطوريات‭ ‬القديمة‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬ثقافة‭ ‬المدنية‭ ‬باتت‭ ‬تشجع‭ ‬الاختلاف،‭ ‬والتميز،‭ ‬والانطواء‭ ‬على‭ ‬الذات‭!‬
‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬معاناة‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬تحوي‭ ‬أقليات‭ ‬كبيرة‭. ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬منها‭ ‬طالب‭ ‬بالحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬أو‭ ‬حظي‭ ‬به،‭ ‬أو‭ ‬حاول‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬الأم،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬بعضها‭ ‬انفصل‭ ‬بالفعل‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬السودان‭.‬
‭  ‬أما‭ ‬البلدان‭ ‬ذات‭ ‬اللون‭ ‬الواحد،‭ ‬فهي‭ ‬أكثر‭ ‬استقراراً‭ ‬وأمناً‭ ‬وتماسكاً‭ ‬من‭ ‬سواها‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬حال‭ ‬مثالية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬وجود‭ ‬أقليات‭ ‬صغيرة‭ ‬هادئة،‭ ‬تنسجم‭ ‬مع‭ ‬السواد‭ ‬الأعظم‭ ‬من‭ ‬المجتمع،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عامل‭ ‬ضعف‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام،‭ ‬بل‭ ‬سبباً‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬القوة‭. ‬اي‭ ‬أن‭ ‬التنوع‭ ‬المطلوب‭ ‬لا‭ ‬يقود‭ ‬نحو‭ ‬الاستقلال‭ ‬إلا‭ ‬بوجود‭ ‬أغلبية‭ ‬كبيرة،‭ ‬وأقليات‭ ‬صغيرة،‭ ‬لا‭ ‬يسعها‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬العام‭ ‬للدولة‭. ‬وماعدا‭ ‬ذلك‭ ‬محكوم‭ ‬عليه‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬المتاعب‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬الآلام‭.‬


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة