يسرف البعض في التبشير بالمدنية كعلاج مؤكد للخروج من أزماتنا المستعصية. ويرى أنها البديل الموضوعي للانتماءات الطوعية واللاطوعية التي تبناها الناس منذ القدم، ودافعوا عنها بحرارة. وهي الكفيلة بخلق عالم جديد، خال من الإحن والخطوب. وتطرف البعض الآخر حتى قال أن التماسك الفكري الذي شهده العرب منذ بداية ظهورهم على مسرح التاريخ، عائد إلى ثقافة المدنية التي يحملونها. وكانت ردءً لهم من السقوط في متبنيات تدميرية، وغير ذلك من الأمور!
إن المشكلة لا تكمن في هذا الكلام الجميل، الذي يبعث الراحة في النفوس، ويمنحها نوعاً من الشعور بالطمأنينة، بل لأن فكرة المدنية لم تكن في يوم من الأيام جزءً من الموروث الثقافي العربي. وكان هناك على الدوام تمايز عقائدي داخل المجتمع الواحد، أسفر عن خراب حضاري واضح، وقاد إلى حروب ومنازعات وثورات لا أول لها ولا آخر. وكانت قوة الدولة التي عززت رصيدها التهديدات الخارجية، من عوامل الوحدة في الامبراطوريات المتعاقبة. وهي التي قامت وحكمت بمنظور طائفي أو قومي، مع استثناءات بسيطة.
ومع ذلك فإن النموذج الغربي الذي تؤمن به النخبة العربية لتلافي الكثير من الخلافات العقائدية والمذهبية والسياسية في العصر الحديث، هو نموذج غير مكتمل الأدوات. فمازال هناك تمييز عنصري يختفي تحت نظام قانوني صارم، يظهر بين الحين والآخر، كلما استجدت معضلة من العيار الثقيل. وأبرز من يمثله اليوم اليمين المتطرف في معظم دول أوربا الغربية.
والنموذج المدني كذلك، يفترض وجود ديمقراطية ناضجة تمنح الجميع فرصاً متكافئة في طريقة إدارة الدولة. فالأحزاب السياسية تختلف في الرؤى والأفكار التي تخص هذا الملف. وقد سمحت بظهور مجموعات ذات اتجاهات خطرة مثل الفاشية والنازية في النصف الأول من القرن العشرين. وبشكل عام فإن الطابع المدني الذي يثير لدينا الإعجاب، ويجعلنا نتلهف على الأخذ به في بلادنا، يحرز النجاح حينما يذعن الجميع لسطوة القانون، ولا يحاولون الالتفاف عليه. وينساقون إلى إرادة الدولة، ولا يتجرأون على المساس بها. وهي أمور طوعية، يمكن أن تجري في كل مكان من العالم.
لكن النظام المدني ذاته، بعد المذابح التي جرت في البلقان، أقر بموضوع الهوية، واعترف بالثقافات الفرعية، وحذر من إلغاء الانتماءات العرقية والدينية. وقد وجد أن احترام هذه الثوابت يحول دون اندلاع أعمال عنف داخلية. مثلما أدت الاتفاقيات الإطارية التي أبرمت في عقد التسعينات من القرن الماضي إلى إشاعة الاستقرار في البلدان التي تضم أقليات صغيرة، نتجت عن تفكك الامبراطوريات القديمة. أي أن ثقافة المدنية باتت تشجع الاختلاف، والتميز، والانطواء على الذات!
وربما كان هذا الأمر هو سر معاناة البلاد العربية، التي تحوي أقليات كبيرة. حتى أن العديد منها طالب بالحكم الذاتي أو حظي به، أو حاول الانفصال عن الوطن الأم، بل أن بعضها انفصل بالفعل كما حدث في السودان.
أما البلدان ذات اللون الواحد، فهي أكثر استقراراً وأمناً وتماسكاً من سواها. ومع أن هذه حال مثالية، إلا أن وجود أقليات صغيرة هادئة، تنسجم مع السواد الأعظم من المجتمع، لم يكن عامل ضعف في يوم من الأيام، بل سبباً من أسباب القوة. اي أن التنوع المطلوب لا يقود نحو الاستقلال إلا بوجود أغلبية كبيرة، وأقليات صغيرة، لا يسعها الخروج على النظام العام للدولة. وماعدا ذلك محكوم عليه بالكثير من المتاعب والمزيد من الآلام.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"