مع تجدد الاغتيالات التي تستهدف الناشطين العراقيين، والمعروف هدفها والقائمون بها، ينبغي الحديث عن مواقف الأمريكيين والأوربيين منها ومن الوضع العراقي برمته.
فهم، مثلا، لم يتذكروا الـمرتزقة السوريين الذين أرسلهم أردوغان لقتل الليبيين باسم الإسلام إلا مؤخراً، رغم أنه ظل، سنواتٍ، يرسلهم بالبواخر، علناً ودون لف ولا دوران.
ولكن رغم أن سكوتهم عن جرائم المرتزقة السوريين في ليبيا كان طويلا ومعيبا إلا أن صحوتهم هذه التي جاءت بعد دماءٍ غزيرة بريئة سفكت، وحرماتٍ عزيزة انتهكت، وأرزاق وثروات كثيرة انتهبت، نافعة ولو أنها متأخرة.
والشيء بالشيء يذكر، فنفاقُهم الليبي هو نفاقُهم الأصغر، أما الأكبر فهو صمتُهم المشين عما جرى ويجري في العراق من ثمانية عشر عاما، والذي لا يمكن غفرانه بأي عذر وأي ذريعة.
فلو دققنا في مفهوم الإرتزاق الذي يرفضونه في ليبيا لوجدنا أنه يعني حمل السلاح وارتكاب جرائم قتل واعتداء وإرهاب ونهب وتهجير لحساب طرف ثالث يجند المتشردين المنبوذين المنحرفين المتمرسين في القسوةَ والعنف والاعتداء والنصب والاحتيال، فيدربهم ويسلحهم ويستخدمهم لتحقيق أهدافه الخاصة ومراميه.
وبهذا التعريف يصبح النظام الإيراني هو الأكبر والأخطر والأشطر من أردوغان، والأسبقَ منه في اختراع هذا النوع من الارتزاق.
فالثابت، بالوثائق والدراسات التي نشرها باحثون متخصصون في شؤون المليشيات الإسلامية العراقية، ثم اغتالهم المرتزقة بسبب ذلك، تُبين أنه بدأ بتجنيد المرتزقة من الأسرى العراقيين منذ حرب الثمانينيات، وأن تسعين في المئة من الذين انضموا إلى فصائله المسلحة، قبل الغزو الأمريكي للعراق وبعده، هم من غير ذوي الولاء العقائدي الطائفي للنظام الإيراني، وأن البطالة والفقر والعوز هي الأسباب الحقيقية القوية الوحيدة التي دفعت بأكثرهم إلى حمل سلاح المليشيات. مع العلم بأن النظام الإيراني المحتل هو نفسه خالقُ تلك البطالة بسياساتٍ وخطط مُبيَّتة مقصودة ليسهل عليه تجنيد العاطلين عن العمل في أحزابه وتنظيماته المسلحة.
وإذا استثنينا التصريح الجريء الذي أدلى به السفير البريطاني في العراق، ستيفن هيكي، في تغريدة على تويتر، والذي أعلن فيه صراحة أن إيران تدعم قتلة الناشطين، فلا أمريكي أو أوربي آخر من الذين لا يكفون عن الكلام الممل عن حقوق الإنسان والشرعية الدولية وسيادة الدول وكرامة الشعوب، خرج عن صمته وأعلن أن المسلحين الذي يستخدمهم الحكام الإيرانيون في العراق هم مرتزقة وإرهابيون، رغم أن صواريخهم تتساقط على جنودهم وضباطهم المتواجدين في العراق بدون توقف، وبرغم اعترافهم بأنها صواريخ إيرانية دون شك.
ولو دققنا في تاريخ التعامل الأمريكي الأوربي مع إيران الخميني، ثم مع إيران خليفته علي خامنئي، لتأكد لنا أن كل ما يعني الحكوماتِ الأمريكيةَ والأوربية هو منع النظام الإيراني، فقط، من حيازة أسلحة نووية وتطوير صواريخ بالستية قد تؤذي مصالحهم، في يوم من الأيام، أو قد تهدد أمنَ حليفتهم إسرائيل. أما قتل العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين، وتهجير ناس من مدن وقرى وإسكان ناس آخرين بدَلَهم، واحتلال دول كانت آمنة ومستقرة وذات سيادة، والتحكم بشؤونها الكبيرة والصغيرة، ورسم سياساتها الخارجية والداخلية، وتعيين رؤسائها ووزرائها ومدرائها وسفرائها، فهي كلها أمور، في اعتبار السياسيين الأمريكيين والأوربيين، لا تدخل ضمن توصيفاتهم للإرهاب.
بل إنهم، بالعكس من ذلك، في أعقاب كل موسم انتخابات مزورة تجريها أحزاب السلطة العراقية المملوكة من قبل النظام الإيراني كانوا يباركونها، ويهنئون بنتائجها، ويجددون تعهداتهم بمساندة الديمقراطية العراقية، حتى وهم يعلمون بأنها ديمقراطية الكواتم والرصاص الحي.
صحيح أن المرتزقة السوريين المستأجرين من قبل أردوغان إرهابيون تربوا في أحضان منظمات مدرجةٍ على قوائم الإرهاب الأمريكية والأوربية، كالنصرة والقاعدة وداعش، وأن جرائمهم في ليبيا منكرة وتستحق من المجتمع الدولي أكثر من الاحتجاج والمطالبة بإخراجهم، إلا أن العقل والعدل يؤكدان أن إرهاب النظام الإيراني أكبر بكثير وأخطر وأشد همجية ودموية من إرهاب مرتزقة أردوغان، وأكثر تهديدا للأمن والسلام الدولييْن، والوازعُ الأخلاقي والإنساني، وليس الشرعي الدولي، فقط، كان يدعو الأمريكيين والأوربيين إلى وقفة شرف صارمة حازمة حاسمة مع الشعب العراقي لحمايته من همجية النظام الإيراني المعتدي الغازي المحتل.
شيء آخر، إذا كان إجمالي عدد مرتزقة أردوغان السوريين الذين يقاتلون في صفوف قوات حكومة الوفاق 5300 مرتزق، وعدد الذين يتلقون التدريب في المعسكرات التركية في ليبيا 2100، وبأسلحة صغيرة ومتوسطة، نسبيا، ولا تتحمل الخزينة الليبية نفقاتهم ورواتبهم لأنها مدفوعة بالكامل من الحكومة التركية وحليفتها الحكومة القطرية، فإن أعداد مرتزقة إيران في العراق تجاوزت مئتي ألف، وأسلحتُهم فاقت بكثير ما يملكه الجيش الحكومي، ورواتبُهم وتكاليف أسلحتهم ولباسهم وغذائهم ومعسكراتهم مدفوعة بالكامل من خزينة الدولة التي أصبح كثيرون من سكانها يبحثون في المزابل عمّا يأكلون.
فأيهما الأخطر على الأمن والسلام في الإقليم والمنطقة والعالم، مرتزقةُ أردوغان أم مرتزقة إيران، ثم أيهما الذي يتوجب على المجتمع الدولي الاحتجاج على وجوده، والعمل الجاد على مواجهته وتفكيكه، قبل فوات الأوان؟
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *