23 Nov
23Nov

مع فوز اليمين المتطرف في هولندا على ما يبدو بالانتخابات العامة، واحتمال تشكيل زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف خيرت فيلدرز للحكومة، ستتوالى التعليقات والتحليلات حول المد العنصري في أوروبا، خاصة مع تصريحاته المعروفة ضد الإسلام والمسلمين، وليس فقط ضد جماعات التطرف والإرهاب التي ترفع شعار الإسلام.
وهولندا ليست وحدها في ذلك، بل إن المد اليميني في تصاعد في أوروبا منذ سنوات، سواء يمين الوسط أو اليمين المتشدد. حدث ذلك في أكثر من انتخابات، حتى إن زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبن كادت تفوز بالرئاسة قبل سنوات لولا أن فاز عليها الرئيس إيمانويل ماكرون، وربما تكون حظوظها في الانتخابات القادمة أفضل، وأمامنا الآن ايطاليا، وإلى حد ما ألمانيا، ولا شك أن القائمة ستطول.
لا أريد التقليل من أهمية هذا التحول، الذي ربما بدأ في الغرب منذ نهايات القرن الماضي متزامنا مع ما سمي "الصحوة الإسلامية" في الشرق، لكن ربط ذلك بصعود الجماعات الأصولية المتطرفة والمتشددة في العالم الإسلامي قد يحمل قدرا من المزايدة، فذلك التغير في السياسة الأوروبية -وبالتبعية في بقية الغرب (بالمعني السياسي، أي بإضافة أميركا الشمالية وأستراليا واليابان وغيرها)- يعود إلى تحولات ما بعد الحرب الباردة وتراجع اليسار بشكل عام، واتجاه تيارات اليسار واليمين التقليدية نحو الوسط، فازدحم الوسط السياسي حتى لا تكاد تميز بين سياسات حزب يميني وحزب يساري.
أعطى ذلك فرصة لانشقاقات بعيدا عن المركز باتجاه الأطراف، فبدأ اليمين المتطرف في الصعود وبدرجة أقل اليسار المتطرف أيضا، تتباين درجات التطرف والتشدد من بلد إلى آخر، لكن تلك السمة العامة في الساحة السياسية في الغرب عموما منذ نحو نصف قرن الآن، حتى في أكثر الديمقراطيات رسوخا مثل بريطانيا، تجد تآكلا مستمرا في التيارات الرئيسية لصالح اليمين المتطرف واليسار الفوضوي.
بالتأكيد هناك تبعات لصعود أقصى اليمين في أوروبا، ليس فقط للمواطنين من أصول غير أوروبية التي أصبحت جاليات كبيرة في أغلب بلدان أوروبا، وإنما أيضا على أوضاع تلك البلاد بشكل عام سياسيا واقتصاديا وحتى فيما يتعلق بسياساتها الخارجية وعلاقاتها مع دول العالم الأخرى.
لكن من المهم أيضا الإشارة إلى أن أغلب تلك الشخصيات اليمينية المتشددة، التي ترفع شعارات متطرفة تقترب من العنصرية، وهي في صفوف المعارضة تتغير مواقفها -ولو شيئا فشيئا- ما إن تصبح في السلطة، ولعل في الحكومة الإيطالية الحالية مثالا واضحا على ذلك. يزايد هؤلاء على السلطات، يسارية كانت أو حتى يمينية، إلى أن يصبحوا هم في السلطة فتتحول المزايدة إلى قدر من الاعتدال الذي يتطلبه الحكم وإدارة شؤون البلاد والجماهير متباينة الأصول والتوجهات.
أتصور أن الخطر الأكبر يأتي ممن يزايدون على اليمين المتشدد، وأغلبهم ممن تتوقع أن يكون أكثر تضررا من وجوده، لكن هؤلاء المزايدين في الغرب يذهبون إلى ما هو أكثر تطرفا بالقدر الذي يصعب معه الاعتدال حتى لو وصلوا إلى السلطة، ولعل في بريطانيا في السنوات الأخيرة أوضح مثال على ذلك، حتى إن السياسة البريطانية تذكر المرء بالنكتة اللبنانية الشهيرة حول اللاجئ السوري الذي تمكن بعد سنوات من الحصول على الجنسية اللبنانية فلم يذهب لعمله في اليوم التالي، وحين لامته زوجته رد عليها "يقطعهم اللاجئين السوريين ما تركوا لنا شغل بالبلد"!
مع سعي حزب المحافظين الحاكم أن يبدو غير متشدد، شهدت صفوف الأمامية صعود قيادات من أبناء المهاجرين، وزايد هؤلاء على المكون الأساسي للحزب من الإنجليز الذين يقودون يمين السياسة البريطانية، التي تمثل مصالح الأغنياء الجدد وبقايا الارستقراطية القديمة، وبلغت مزايدتهم أن كانوا أكثر المتحمسين لخروج بريطانيا من أوروبا (بريكست) كي يظهروا أنهم إنجليز أكثر من الإنجليز.
المثال الأوضح على هؤلاء المزايدون في بريطانيا هو الموقف من الهجرة، فوزيرة الداخلية السابقة بريتي باتيل، وهي من أصول هندية، كانت أكثر تطرفا في وضع قوانين منع الهجرة بل وترحيل المهاجرين الموجودين فعلا من رئيسها وقتها بوريس جونسون، صحيح أن جونسون أصلا ينحدر من مهاجر تركي وأصله شركي، لكنه يظل "قوقازي" الأصل مثل بقية الشعوب الأوروبية، أما باتيل، حتى وإن كانت من الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين، فهي ترى أن أصولها الآسيوية تدفعها للمزايدة أكثر.
ثم خلفتها في المنصب سويلا بريفرمان، وأهلها مهاجرون من كينيا وموريشيوس، فكانت أكثر تشددا ومزايدة في ملف اللاجئين من باتيل، صحيح أن وزير الداخلية الحالي الذي خلف بريرفمان نصف أصله من سيراليون ونصفه بريطاني، لكنه وإن لم يستطع التراجع عن مزايدات من سبقه بشأن الهجرة فإنه ربما لن يزايد أكثر.
هؤلاء المزايدون على اليمين المتشدد هم أكثر خطرا على سياسات بلادهم الأوروبية بشكل عام، وربما على جالياتهم أكثر من غيرهم، ذلك أنهم يشعرون، دون أن يدروا تقريبا، أنهم بحاجة للمزايدة كي لا يتهموا بأنهم يميلون لأصولهم فتصل مواقفهم إلى ما هو أبعد من التشدد، وتزيدهم المناصب تشددا وليس اعتدالا كما يحدث مع اليمين المتشدد التقليدي.



الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة