عشت طفولتي في كوخ من القصب الذي مزقته الريح والأمطار، ولست بصدد بوح أسرار الفاقة، ولكن الأهم في تلك الحياة كان في كوخنا ذاك صورة مزججة للإمام الحسين يشع من حول وجهه النور، وإلى جانبها صورة مزججة للسيدة العذراء مريم وهي تحمل صورة المسيح طفلا يشع من وجهه النور، والصورتان تجانبان بعضهما.
هكذا ولدنا وهكذا عشنا وكبرنا صبية ورجالا، وبقينا صورتين متجانبتين، وكانت مدينتنا ومدننا العراقية بأكملها ينظر سكانها للشخصية المسيحية مثل أيقونة الحياة الجميلة.. الشخص المسيحي كان شخصية ودودة بغير ادعاء مسالمة بغير افتعال حنونة بصدق، وكانوا دائما يرتقون المواقع الإجتماعية في مراتبهم الوظيفية، وكانوا زينة شوارع المدن ومؤسسات المدن ومدارس المدن وكنائس المدن.
ومذ حل كابوس المؤسسة البعثية، فايروس وسرطان الحياة العربية والعراقية، وما ساد من فوضى الحياة بسبب الاحتلال الأمريكي البريطاني بغطاء شرعية الأمم المتحدة، الاحتلال الذي لم يرفضه أحد يومها بسبب رغبة الناس في الخلاص من رعب الدكتاتور المعتوه وأسقاطه دون التفكير فيمن يأتي بعده "وإن كان الشيطان بديلا"، فأتى من المعتوهين والنهمين في شفط ثروات البلاد وخيرها من أحالوا العراق إلى أرض يباب مخيفة لليوم وللغد المجهول.
في خضم الرعب الجديد، فرغت المدن العراقية أو تكاد، من جمال الشخصية المسيحية وهاجر الكثيرون إلى بلدان اللجوء وهناك في المنافي بات المسيحيون يبكون العراق. كان المسيحيون العراقيون أو العراقيون المسيحيون تزهو الحياة بهم في الجامعات وفي المصارف والوزارت وفي صالات السينما، حيث تعرض أفلام المجتمع الأمريكي، وكانت أغاني الحب تزدهر بالمرور صوبهم "وأنتي على دينكي وأنا على ديني". والبنت المسيحية سواء لبست العباءة التراثية العراقية التي تزهو بها المرأة العراقية جمالا، أو بدونها سافرة تمشي في ممرات الجامعات والكليات العراقية والكل فرحان ونشوان ولا أحد يعرف أو يسأل عن المذهب والطائفة!
منذ سقوط جدار الرعب، هجرنا الكثير من المسيحيين العراقيين وكان أن هجر العراق كل من إستطاع الهجرة من العراقيون، وكثر المهاجرون مثلما كثر "الأنصار" المقيمون، وإلتبست مواقع الرئاسات وتقسمت الولاءات وصارت ثمة حواجز لا مرئية تسيج ما يسمى الأقاليم معلنة أو غير معلنة من مواقع المذاهب والملل ورفرفرت أشكال الرايات الدينية والإجتماعية وما يطلق عليهم المليشيات، صارت الرايات ترفرف في سماء ملوثة بغبار التصحر بعد أن كانت ترفرف راية واحدة دون عليها الدكتاتور المعتوه صرخته المدعية "الله أكبر" ولا تزال ترفرف مكتوبة بدماء الأبرياء دماء شهداء الحروب المجنونة، وصارت سلاحف الأهوار تمشي باكية على مياه اليابسة أو يابسة المياه، التي إختفت أهوارها، ونفقت أسماك الأهوار ومنها تلك التي إنقرضت وأنقرض جنسها ولا نعرف إلى أين هو ماض جنسنا بدون كهرباء ولا ماء وسمعنا إسم "توماس أديسون" مخترع الكهرباء للإنسانية وقديس الشعب الأمريكي يشتم من على منابر الإمام الحسين. ونحن لا نعرف إلى أين نحن ماضون نتوضأ ببقايا مياه التصريف التي تدلق من البيوت والجوامع نحو بقايا خنادق كانت تسمى فيما مضى أنهاراً!
الحالة الديموغرافية اليوم ملتبسة في العراق ومشكوك في أمرها. والأصول العراقية لم تعد صافية! انطفأ الفرح المسيحي في الكنائس، مثلما انطفأت أحزان السيد المسيح التاريخية. وحين أصبح الوجود المسيحي رمزيا في العراق، لم يعد العراق عراقاً!
تناوبت مليشيات على سدة الحكم صعوداً ونزولاً، وأسوأ ما فيها استحقاق الرئاسة، ليس معيباً أن يكون الرئيس كورديا، ولكن بجدارة أن يكون رئيساً، ولم لا يكون أيضا مسيحيا، فيمنح المسيحيين وكل شرفاء العراق ثقة النهوض بالبلاد من جديد، ولم لا يكون مندائيا، كي يبعث الفرح في نفوس الصابئة المندائيين أصفياء يحيى زكريا، مثلما يكون مسلما، أو أزديا أو تركمانيا، ألمهم أن يكون جديرا بالرئاسة وجديرا بالرمز والتاريخ الشخصي الذي لا تشوبه شائبة ولم تمتد يده على المال الذي يبني الحياة الكريمة للعراقيين، وبذلك يحق الاستحقاق للمكان المناسب كرئيس للعراق "الغالي".
بهذا الصدد، صدد الخوف من المجهول، وصدد النهب المخيف الذي تضفي الفوضى عليه الشرعية، لعب الإعلام وبشكله الفضائي وبطريقة مدروسة في أضفاء الشرعية على فوضى الحياة التي سادت المجتمع العراقي وبات يحمل صفة التجهيل وصفة الفاقة وصفة القتل والخطف وفي غياب القانون، ما يستدعي إعادة النظر في العملية الإعلامية برمتها وفق قانون وطني يسمو بالروح الوطنية وبالسمة المتحضرة التي لا تشوبها شائبة العنصرية أو النزعة الشوفينية. إعلام يقوده إعلاميون وطنيون وأكاديميون بعيداً عن المدن، وفي مدينة أعلام عراقية تؤسسها عقول نيرة لا تعرف المحاصصة بل تعرف الوطن بكامل أراضيه وسمواته، وطن تقوده العقول الثقافية، الوطن بحاجة إليها حقاً. وطن لا يهرب منه العراقيون ولا يترك المسيحيون كنائسه خالية من الصلوات والمحبة.
نشرت وسائل الإعلام العالمية قبل فترة وجيزة تقريراً مخيفاً عما يحصل في مدن أوربا بسبب غموض الموقف السياسي والعسكري وبسبب الحرائق والتحول البيئي والحروب العلنية أو غير المعلنة. وبرغم الفاقة الإقتصادية التي تجتاح أوربا، إن المفاعلات النووية إذا مستها صواريخ المعارك المحتدمة وتسرب منها الغبار النووي فإن أوربا قد تصبح قارة غير قابة للعيش!
نحن الآن نعيش بدايات حرب عالمية ثالثة وقد يدخل العالم هذه الحرب من أوسع أبوابها، وستحرق الكثير من الأسلحة التقليدية وصولا إلى الأسلحة النووية.
إن لنا وطنا، وما يقرب من شعب يشكل بتعداد نفوسه شعبا مهاجرا، وصار ينجب جيلا من الأحفاد الأصحاء وأصحاب المعرفة .. وحين تصبح أوربا قارة غير قابلة للعيش، فأين سيذهب المهاجرون العراقيون، أن لم نعد لهم وطنا جديرا بالحياة وبأهله، وطنا يستقي من روح الدولة السومرية وتاريخها مجداً حضارياً مجيداً، وطنا أكثر جمالا، وقد حباه الله ذهبا في أرضه المقدسة، وطنا يسري فيها الفراتان والشاطئ مياها سهلة عذبة، تروي نخيل العراق وأهوار العراق، وينتج للوافدين إليه من أحفاده رطباً جنيا..؟!
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *