يعني هذا المشروع نهوض العرب والمسلمين في مرحلة يمكن ان نعرفها بانها مرحلة الخروج من السيطرة الاستعمارية الخارجية ، ومن الوجود التاريخي الذاتي ، للدخول الى عصر تشكلت قسماته العالمية الأساسية ، في سياق الأحداث الاجتماعية والسياسية التي حصلت في الغرب المسيحي ( العصرنة ) ، ثم التغييرات التي عرفها الشرق على اثر الهبّات والثورات التي قادتها شعوب تلك المنطقة من العالم (المبادئ الإنسانية والكونية ) ،الى تفجير بلدان العالم الإسلامي بحركات الرفض والثورة والإصلاح ، مستفيدين من جميع الاختيارات ليبرالية اشتراكية وإسلامية .اما القسمات الحضارية للمشروع ، فيمكن ان نجسدها في الشعار التالي : حرية ، مساواة ، عدالة .--- توجهات المشروع العربي – الإسلامي :مر المشروع العربي – الإسلامي بثلاثة ازمنة متناقضة نلخصها كالاتي :1 – زمن المصالحة بين الليبرالية والاصلاحية الإسلامية .2 – زمن المد القومي .3 – زمن الصحوة الإسلامية .يلاحظ ان أياً من هذه المشاريع الثلاثة لم يحمل في زمانه الخاص ، كل هذه التوجهات والقسمات الحضارية مجتمعة ، بل لقد انفرد كل مشروع في التركيز الأحادي على جزء من هذه التوجهات ، واغفل الأجزاء الأخرى ، او اعتبرها ثانوية وسلبية .في زمن الليبرالية والاصلاحية الإسلامية ، جرى التركيز على البرلمانية وحدها ، حتى أصبحت في نظر المقابلين ، مرجعية تركز على البرلمانية من اجل البرلمانية وحدها ، حتى أصبحت في نظر المعارضين المقابلين ، مرجعية رجعية تركز على البرلمانية وحدها من اجل البرلمانية ، لتصريف الكلام ، وإلهاء العامة ، وتفويت الوقت ، وتعطيل النهوض او الاحتجاجات ..وفي المشروع القومي جرى التركيز على الاشتراكية الإنسانية ( سان سيمون ) التي أصبحت مع مرور الوقت ، عبارة عن بيروقراطية دولة مفصولة عن القاعدة ، ومكبلة بتعدد المساطير والقوانين التي تحولت مع ظهور البوادر الأولى للفشل ، الى ترسانة قامعة للحريات . فساهم هذا في احداث الشرخ بين القمة والقاعدة ، وكان سببا في جميع الهزائم التاريخية المتوالية التي حصدها هذا المشروع . ولا اذل على ذلك فشل الوحدة العربية ، هزيمة حرب اليمن ، النكسة العربية في 1967 ، وضياع ما تبقى من فلسطين والأراضي العربية التي احتلت في تلك الحرب الخاطفة .اما المشروع الإسلامي ، فقد جرى التركيز على الموروث الأيديولوجي الحضاري ، بتقديم الاخر الطاغية في صورة الشيطان الذي لا يبحث الا عن الشر والهزيمة . وقد تحول هذا الأسلوب في العمل لذا حركات الإسلام السياسي ، الى ان اصبح عبارة عن نرجسية اكثر منه تقويما علميا لطبيعة الاخر المسيحي اليهودي . والأخطر ان أيا من هذه المشاريع لا يعترف لسابقه بفضل او ميزة ، حتى بدا ان كل مرحلة تكاد تبدأ من الصفر ، او تعود الى " تاريخها الخاص " الذي تبحث عنه في حقبة ، او اتجاه ، او في موقف ، او نص من النصوص .اذن السؤال الذي يمكن ان نطرحه ، هو هل هناك ثمة استراتيجية حضارية بديلة لكل الإخفاقات ، والانتكاسات ، والانهزامات التي طبعت تاريخنا المثخن دائما بالجراح ؟ .ان الجواب سيبقى دائما معلقا على أساس من الاقتناع ان الاستراتيجية لا يبنيها كاتب او باحث او مفكر ، بل تبنيها حركات الشعوب في نضالها وجهادها وعطاءها على كل المستويات . فالفلاسفة ينظرون للثورة ، والثوار يقومون بها ، وللأسف الجبناء والمنافقون يستمتعون بها .--- استقطابان منهجيان تجادبا المشروع العربي – الإسلامي :1 ) اتجاه يركز على منهج الثورة والعمل السياسي اليومي الدائم والمستمر . ان لهذا التوجه ، منطقه ومبرراته وتحليلاته التي يمكن ان نقراها عبر مفاهيم يزخر بها خطاب ( الثورة ) ، مثل مفاهيم التشديد على الجهاد ، والتغيير ، والرفض ، والمواجهة ، والكفاح المسلح ، واستخدام العنف الثوري في مواجهة العنف الامبريالي .. الخ . كما ان لهذا المنطق مبرراته التي تستقي التجارب من التاريخ والاحداث ، حيث فشلت ثورات توقفت او أُجهضت ، وحيث تعبت قوى مناضلة فتخلت او استراحت ، كما له رؤيته التاريخية والمستقبلية التي تستلهم الثورات من التاريخ الإسلامي ، وتتطلع نحو استمرار الثورة حتى التغيير الشامل ، واحيانا حتى الحلم بتغيير العالم .2 ) اتجاه يركز على بناء الدولة العصرية القوية ، وما يزخر به هذا الخطاب من مفاهيم الانماء والمعاصرة والتّحديث . ان لهذا الاتجاه مبرراته المستقاة من التجارب التاريخية التي اثبتت أهمية المؤسسات ، والأجهزة ، والإدارات ، والخطط ، والبرامج ، للخروج من حالات التأخر والجمود الحضاري . أي الانخراط حاضرا ومستقبلا في النظام العالمي القائم . مطلب عصرنة الدولة وتحديثها .ان هذين التوجهين ، يحملان عنصر التداخل والتشابك على مستوى القوى السياسية ، والأحزاب ، والنخب ، والكتل الحاكمة . فبعض هذا القوى كانت تقول بالثورة ، وانتهت في حضن السلطة ، وغرقت في خطاب الدولة وتوجهاته . وبعضهم فهم الثورة من خلال مصالح الدولة . ولما كانت الدولة العربية الإسلامية قد أضحت دولة وطنية ، فان اختلاط المنظور الوطني الإسلامي ، اضحى اختلاطا يشوبه الكثير من التوظيف السياسي لمصالح هذه الدولة او تلك . اذ أضحت الأيديولوجية القومية ، كما الأيديولوجية الإسلامية ، ايديولوجيات دول تعبر عن مصالح وطنية لكل دولة في غالب الأحيان ، وانْ كان التوظيف قوميا او إسلاميا . ان الرؤية المتجاوزة لهذا الواقع المأزم ، تدعو لإعطاء الأولوية لتحقيق هذه النزعات الإنسانية الثلاث ، والتي يمكن تلخيصها بكلمات ثلاثة : حرية ، عدالة ، مساواة ، في الدولة الوطنية ، وللامة على حد سواء .--- اطراف المشروع العربي الإسلامي :هناك ثلاثة اطراف في المشروع العربي الإسلامي :-- الثورة بما هي طموح تغييري .-- الدولة بما هي ضرورة اجتماعية .-- والانسان بما هو عنصر الفعل والانفعال المتجاذب في هذا التغيير والإصلاح .ا – الثورة : من المتعارف عليه عالميا ومن خلال التجارب الإنسانية المتنوعة ، فان كثيرا ما يقع أصحاب الثورة في الفوضى العارمة ، وفي اشكال من الرفض العدمي ، او المسلك النخبوي الاستبدالي او الحزبي ، وذلك على حساب نظام الجماعة ومصالحها ، وعلى حساب شورية الامة وشرعيتها. بل اكثر من ذلك ، تتحول الثورة من مبررات قيامها في سبيل الحرية والعدالة ، الى نقمة وبوليسية ودكتاتورية واستبداد ضد الاخر المعارض ، فيتحول الثوار الكتبة على حد وصف الشاعر العراقي مظفر النواب ، الى نخبة سياسية مستبدة وقامعة ، تتكلم باسم الامة ، فتستبدلها بحزبها ، وتحل محلها في تصريف شؤونها اليومية والمعاشية . استبدال الحزب بالشعب ، واستبدال القيادة عن القواعد . أي الانتهازية والعسكرتارية والاستبداد المجسد في القمع بشكليه المادي والايديولوجي .ب – الدولة : من أخطاء هذا التيار ، انهم يقعون في أحادية الرأي والمسلك ، فيقمع الرأي والاجتهاد والاختلاف في المجتمع قمعا ، بدل ان يحل حلا إنسانيا . ان ضرورة ضبط التناقضات في المجتمع ، وغرائزه ، وباسم تجنب الفتنة بين افراده وجماعاته ، يعتبر ضرورة قسرية مشرعنة للاستبداد والقمع وسلب الحريات ، مع ان الضرورة لا تنفي الحوار والتحاور والجدل .ان النبوة القائمة على الوحي الإلهي ، التزمت منهج الحوار والجدل ، واكتفت وفقا للأمر الإلهي بمهمة النذير والبشير ، وامتنعت عن موقف السيطرة والتغلب والانفراد بالرأي .فهل يمكن ان يحمل مشروعنا العربي الإسلامي ، الذي هو مشروعنا الحضاري الأصيل ، فهما مختلفا لمسألة الدولة السلطانية في تراثنا ،ولمفهوم الدولة البيروقراطية الحديثة في عصرنا الحاضر ؟ . فهل يمكن ان تتوازن العلاقات بين الدولة والمجتمع ، في صيغة مؤسسات لا يطغى فيها المجتمع بتناقضاته وبغرائزه المختلفة على الدولة ، فتنفجر الامة او الجماعة او الوطن ، ولا تطغى فيها الدولة بوحدانيتها وقسريتها على المجتمع ، فنقع في الاستبداد او الأنظمة التوتاليتارية ؟ .انه تساؤل عما أصاب مختلف التجارب السابقة من انتكاسات ، عطلت مسيرة التنمية والديمقراطية ، فكان الخاسر الوطن والمواطن الذي تتقاذفه تناقضات الدولة والأحزاب بمختلف تشكيلاتها الأيديولوجية المتناقضة .ج – حقوق الانسان : بمقارنة تاريخنا بتاريخ الغرب اللاّخلاقي العنصري ، المملوء حقدا ودما وعنفا ، سنجد هناك عدة نصوص واحاديث تتحدث عن المساوات ، التآخي ، وعن حقوق الانسان قبل ان تفطن لها التشريعات الغربية ، وتستعملها بشكل انتقائي غاية في المكر والتضليل . فيدفع بنا هذا التراث من قيمنا ، ومن دون ان نشعر ، ان نحس بالزهو والراحة ، على اننا فعلا وحقيقة كنا ولا زلنا ( خير امة أخرجت للناس ) . لكن من دون ان نشعر كذلك ، ننسى الانتباه الى ما يسمى بحقوق الانسان في الغرب اللاخلاقي ، في كيفية الاعتناء بمواطنيه ، بمنحهم المساوات في الاستمتاع بحقوقهم التي يعطيها لهم التاريخ ، وتعطيها لهم القوانين ، وان كل ذلك يتم على حساب تعاسة الشعوب الأخرى التي تستنزف ثرواتها ، لتحقيق الرفاهية لشعوب العالم المسمى متحضر .اذا قمنا بمقارنة بسيطة بين قيمة الانسان عندنا وعندهم ، سنجد فروقا شاسعة في العديد من الخدمات الأساسية ، التي يجب ان يتمتع بها المواطنون كخدمات الصحة ، التعليم ، الشغل ، السكن اللائق ، حرية التعبير ، وحرية الرأي ، وحرية التنقل ... كما نجد فرقا شاسعا في مستوى الخدمات التي تقدمها دول المحيط ، مقارنة مع دول الغرب المركز لمواطنيها على مختلف المستويات .اذن السؤال : كيف يمكن تجدد قيمة العمل في الإسلام على مستوى الفرد والجماعة معا ؟ . أي تخليق العمل بتحميل المسؤولية للمسؤول عن العمل ، وهو ما يعني المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب . انه باستثناء بعض الكتابات التي حصلت في الماضي ممثلة في ما كتبه محمد عبده ، حسن البنا ، مالك بن نبي ... الخ ، تحض على العمل وقيمته واخلاقيته من وجهة إسلامية ، فان المشروع الإسلامي المتمثل في خطاب الدولة ، او خطاب الثورة على حد سواء ، قلما يتنبه الى أهمية هذه القيمة في الإسلام ، فيسعى الى تجديدها نصا وسلوكا ونظرية . أي استدخالها في النفس كقيمة .--- مشروع الاصالة والمعاصرة بين الدولة الوطنية والدولة القومية :من خلال مختلف التجارب التي مر بها العالم العربي والى الآن ، لم تعد المسألة المطروحة للنقاش ، بين المفكرين والمحللين كامنة في السؤال التالي : كيف نثور ؟ . وما هي الطرق المؤدية الى الثورة ؟ . ولكن السؤال الان هو : كيف نستطيع الجمع بين مختلف الإيجابيات التي راكمتها مختلف التجارب الإنسانية ، بعيدا عن التشنج والتعصب والتطرف المؤدي الى الهلاك ، والمسبب في تعطيل قاطرة التطور والتقدم التي حققها الاخر ، وجعلته يختصر تاريخنا في ( محدودية إنتاجية العقل العربي المازم والمهزوم ) . ان هذا السؤال يهم الجميع ومن دون استثناء . الثوار والحاكمين . الوطنيين والقوميين . العلمانيين والإسلاميين . العلمانيين واللائيكيين . أي الجميع .ا – الجمع بين الدولة الوطنية والدولة القومية : لا اشكال في ان الدولة الوطنية والدولة القومية ، يمكن ان يلتقيا على اكثر من صعيد ، واعتقد ان تجنيب الاختلاف السياسي والايديولوجي لصالح التعاون الاقتصادي والمشاريعي ، يمكن ان يسرع في تحقيق او على الأقل تقريب الأفق نحو الاندماج التحتي في افق تحقيق الاندماج العلوي ، مع الاحتفاظ بالخصوصية والتراث المحلي .ان تجربة الاتحاد الأوروبي في الوحدة والتكامل، مع الاحتفاظ بالاختلافات العرقية والمذهبية واللغات والأعراف والتقاليد ... يبقى مثلا شامخا امام هذا الإنجاز العظيم للدولة الوطنية والدولة القومية . وفي هذا الإنجاز الذي تنتظره الملايين من العرب والمسلمين ، لتحقيق سمة أساسية من الحلم المعجزة في بناء المشروع العربي الإسلامي .ب – ما بين الثورة والدولة : عندما يدرك الحاكم ان الشعوب لا تساس بالقوة ، والتفرد والاستئثار ، وبواسطة الأجهزة السرية ، بل ثمة مؤسسات وقنوات يجب ان تشكل وسائط لا بد منها ، بين الدولة والمجتمع .وعندما يقتنع الداعون الى الإصلاح او الثوار ، بالمبدأ الفقهي الإسلامي ، الداعي الى تجنب الفتنة المرادفة للحرب الاهلية بين أبناء نفس الشعب ، وان يدركوا تماما الحد الفاصل بين الثورة والفتنة ، بين مصلحة الامة وسفك دماء ابناءها ، فتفهم الثورة على انها تغيير في النفس وتغيير في القوم ، تربويا واخلاقيا واجتماعيا .. آنذاك يسهل ردم الهوة الفاصلة بين المكونات الأساسية للمجتمع ، او الحاكمون والثوار والمصلحون . اذن كيف نوازن بين الدولة والمجتمع كي لا يطغى احدهما على الاخر ؟ . طغيان اهل الدولة على المجتمع طغيانا استبداديا . ويطغى أصحاب الثورة او الداعون الى الإصلاح ، على الدولة والنظام العام للجماعة ، فيسبب ذلك في الفتنة والعنف .ج – ما بين العلمانية والإسلامية السياسية : لقد بلغ الاختلاف بين " العلمانيين " و " الإسلاميين " درجات قصوى ، خاصة بعد تحميل احدهما للأخر ، المسؤولية المباشرة عما آلت اليه أوضاع الامة ، من مدلة واهانة وحضيض ، كان ابرزها هزيمة الأنظمة التي لوحت باللائيكية مع إسرائيل (1967 ) ، وفي ارجاع التأخر الى المنظومة الفكرية لكل مجموعة . ان هذا الجدل الذي يتخذ شكل استنزاف فكري وسياسي ، خاصة بعد ان رفع القوميون ، والشيوعيون ، والماركسيون شعار علمنة الدولة ، او فصل الدين عن الدولة . وبعد ان رفع الإسلاميون شعار تطبيق الشريعة ، والإسلام هو الحل ، في عملية استعجال للوصول الى الحكم ، جعل الجدل العقيم بين المجموعتين يتخذ شكل حوار خارج التاريخ ، وخارج السياق الفكري ، وخارج حقل الصراع الفعلي .في اوربة كان الصراع كالاتي : العلمانية مقابل الكهنوت . الدهرية مقابل اللاهوت او الغيبي . وكان الصراع تعبيرا عن صراع أفكار بين قوى ومؤسسات واتجاهات : الليبرالية مقابل الكنيسة . الديمقراطية مقابل التحالف الاقطاعي الكنسي . البرلمانية مقابل الاستبداد .اذن . بهذا الجدل يمكن ان نفهم موقف إسلامي النهضة من الاتجاه الإصلاحي الإسلامي " محمد عبده ، رشيد رضا ، الكواكبي ، النائيني ... الخ " ، لماذا خاض هؤلاء المعركة الدستورية في كل من ايران والدولة العثمانية ، جنبا الى جنب مع الليبراليين والديمقراطيين البرلمانيين المحليين ، معتبرين ان كل هذه الأفكار والمؤسسات ، هي أفكار ومؤسسات إسلامية الأصل . وان المؤسسات السلطانية الاستبدادية وانْ توسلت بالدين ، فهي مؤسسات غير إسلامية . فمشيخة الإسلام في الدولة السلطانية ، واخر تجلياتها الدولة العثمانية ، والدولة الصفوية القاجارية ، كانت قد أضحت شبه مؤسسة إكليركية ، رغم التأكيد العام ان لا كنيسة في الإسلام .لهذا رأينا الكواكبي يتحدث عن الاستبداد السياسي ، والاستبداد الديني في الدولة العثمانية ، وراينا " النائيني " يتحدث عن شعبتي الاستبداد في الدولة القاجارية : الشعبة الدينية المتمثلة بعلماء السوء ، والشعبة السياسية المتمثلة بالسلاطين . انه صراع الاتجاه الإسلامي السلطاني ، والاتجاه السلطاني الشوري .ان حقل الصراع بين الاتجاه " العلماني " ، وبين الاتجاه " الإسلامي " ، فانه الى جانب الاستعارة اللاّتاريخية فيه ، فانه يترجم حاليا حالة الصراع السياسي بين نخب تستعجل الوصول الى الحكم . هذه باسم تطبيق الشريعة ، وتلك باسم الحداثة وفصل الدين عن الدولة . وفي الحالتين تستعيد الدولة العربية ( الحديثة ) لنموذجها السلطاني القديم ، فتعود الى الدين لاستخدامه أيديولوجية سلطانية ، اوفقها سلطانيا .لقد سلبت الدولة السلطانية خلال القرنين الماضيين ، عبر نمط علاقتها بالدين ، المعاني السامية والنبيلة التي كان يمكن للقيمة الدينية ان تزخر بها ، وتشجع لتستقيم علاقة متوازنة بين الدين والسياسة ، بين الفقيه والسلطان ، وبين المجتمع المتدين والدولة . ثم أكملت الدولة ( الحديثة ) سواء كان خطابها إسلاميا او علمانيا ما قامت به الدولة السلطانية. كذلك فعلت بعض الأحزاب الإسلامية المعارضة ، مهمة ما بدأته الدولة السلطانية القديمة ، فتم اقبار ما تبقى من القيمة الدينية في المجتمع ، حتى انعدم الحد الفاصل الضروري بين الدين والسياسة . فغرق الفقيه في حقل السياسة حتى اضحى سلطانا او مشروع سلطان ، وابتذل الحاكم الدين حتى اضحى ممثلا فلكلوريا للتراث الديني .والمفارقة اللافتة للعيان ان حاملي خطاب العلمانية ( في موقع المعارضة ) ، تناسوا ان السلاطين المسلمين ، كانوا اكثر علمانية منهم بالمعنى المدني والدنيوي والزمني ، كما انهم لا يدركون انه في حالة وصولهم الى السلطة ، سيكتشفون كما اكتشف بعض زملاءهم ، أهمية الاستخدام الديني في تثبيت السلطان الزمني ، ولو كان ذلك عن طريق الارتضاء بتطبيق الشريعة في باب الحدود .وبالمقابل ينكشف العمل الإسلامي انكشافا سريعا ، عندما يرتضي محالفة الحاكم على أساس هذا الشعار ، وبمعزل عن السياق العلائقي بين المجتمع والدولة ، وبغض النظر عن القيم الدينية والأخلاقية والسلوكية التي يزخر بها الإسلام ، فلا يسأل اين هي في نصاب الدولة ومسلكها ؟ . وأين هي في نصاب المجتمع ومسلكياته ؟ . وأين هي في مسلكيات العمل الإسلامي واخلاقياته توجها وممارسة ؟ .ان التجديد الحضاري الأخلاقي ليس خطابا في الاصالة ، او خطابا في المعاصرة . انه ليس تقليدا لماض يخص الذات وحدها ، او لماض يخص الاخر وحده . ان التجديد الحضاري أولا وقبل كل شيء ، جواب على تحديات راهنة ، محورها وقطبها الانسان أولا وأخيرا . الانسان في زمن قطعت فيه حركة التاريخ العالمي خلال القرنين الماضيين ، اشواطا هائلة من الإنجازات ، والنظريات ، والتجارب ، والأنظمة السياسية والاقتصادية ، كما قطعت فيه حركة التاريخ العربي الإسلامي المعاصر ، منذ منتصف القرن التاسع عشر والى الآن ، اشواطا من التجارب الفنية ، من ليبرالية ، وقومية ، وماركسية ، وصحوة إسلامية ، كما مرت بأشكال من التجارب الوحدوية والوطنية ، والمشاريع الاتحادية والإقليمية . والان وبعد كل هذه الثروة والغنى التاريخي المركب والمعقد ، لم تعد المسألة محصورة ، ولا يمكن ان تنحصر في سؤال : ماذا نختار من هذا التجارب ؟ لكن السؤال الفعلي هو : هل استوعبنا هذه التجارب ؟ وكيف نتجاوزها في مسيرتنا الراهنة ؟ .ومن أولويات العمل الجاد في هذا الباب ، انه لا يكفي ان نشير إشارة سريعة الى ازمة النظام الرأسمالي العالمي ، ومأزق الحضارة المادية لنستدل على فشلها ، ولا يكفي ان نشير الى انهيار النظام الاشتراكي ، ولنصل سريعا الى البديل الإسلامي كنموذج حضاري محقق وناجز ، ذلك انه مع صحة الدعوة الى البديل الإسلامي ، فان النظرية الإسلامية المعاصرة ، اذا لم تستوعب تجارب التاريخ العربي الإسلامي ، قديمة وحديثة ومعاصرة ، ستبقى عاجزة عن إيجاد البديل الحضاري الإسلامي . ويبقى البديل مجرد نص وخطاب مؤمل ، وفي احسن الأحوال ثورة هنا او انتفاضة هناك . مقاومة هنا او معارضة هناك ، تقوم جميعا باسم الإسلام الشعبي ، طالما كان سلاح حماية ودفاع بيد الحركات الجماهيرية ، في مواجهة الاخر او الطرف المعارض . فعلى ضوء هذا الاعتبار يتشكل الوعي التاريخي الذي يتواصل مع الحاضر ، ويتصور صورة المستقبل ، بدل ان يبقى العرب والمسلمون اسيري تواريخ فرق وسير وتراجم ، كما هم أسيروا احكام فقهية ، لمذاهب انتجت في مراحل تاريخية سابقة ، وهم يحلمون الان بصناعة مشروع حضاري معاصر ، لامة وعالم إسلامي يقبض عليها نظام رأسمالي عالمي جائر ...لقد فشلت جميع المشاريع الأيديولوجية التي جربت حتى الان . فشل المشروع الدولتي لتحوله الى مشروع استبدادي ، وتحول الدولة من دولة ديمقراطية الى دولة قامعة باسم الدفاع عن الشعاراتية ، فتحول النظام من نظام المجتمع والتعددية ، الى التوتاليتارية .وفشل المشروع الماركسي العلماني لتركيزه على دكتاتورية طبقة " العمال " ، ونفي او الغاء الطبقات المكونة للمجتمع .وفشل المشروع الإسلامي للإسلام السياسي ، لاعتماده النرجسية اكثر من اللازم ، واقتصاره على مخاطبة الحواس والشعور ، دون تعمقه في بحث اصل الداء ، بغية طرح الحلول المعقولة والمقبولة . والمستغرب له ان القاسم المشترك بين كل هذه التصورات ، هو تبادل التهم ، ونفي أي مزايا عند الاخر المعارض دولة او أحزاب سياسية .ان البديل لكل هذا الفشل المتعاقب ، يكمن في الجمع بين ثوابت الدولة الوطنية ، والدولة القومية الوحدوية . أي الاحتفاظ بالخصائص الوطنية لكل دولة ، من تراث ومقدسات وطنية ، تحافظ على التمايز والاختلافية ، ثم الإسلام كمرجعية تستجيب للرغبات والأحاسيس الروحانية للمواطن العادي ، الى جانب التفتح على ما راكمته الإنسانية من ابداع في مختلف مجالات من قانون ، وفلسفة ، ورسم ، وعلوم ، واشكال الحكم ، ونظمه المختلفة والمتنوعة ، لإغناء التجربة بغية الدفع بالانطلاقة نحو الاتجاه الصحيح ، ولتفادي كل اشكال الإحباط والهزائم في المسيرة نحو بناء المشروع المجتمعي العربي والإسلامي . وهنا فان الاطار لمزج كل هذه الشروط وتنظيمها ، يبقى الدولة العصرية التي تجمع بين الاصالة والمعاصرة ، بين الأصل والتجديد ، ودون افراط او تفريط .اما القطع مع الماضي باسم " الحداثة " ، او الارتماء في الماضوية باسم تحصين الذات ، او التركيز على الدولة الاستبدادية القامعة ، باسم مجابهة الفتنة والاضطراب ... فلن يزيد المشكل الا تعقيدا والازمة استفحالا . ويبقى احسن مثال يقتدى به في هذا الباب ، دول الاتحاد الأوروبي التي تركز على الاقتصاد والعلوم ، مع احتفاظ دولها بخصوصيتها المختلفة . لغات ، ديانات كاثوليكية – برتستانية ، الالحاد ، اللاّدينيون ، يهود ، إضافة الى مجموعات دينية مختلفة ومتنوعة ، عادات وتقاليد ، واحتفالات دينية ووطنية ، تخلف من دولة الى أخرى .
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"