08 Jan
08Jan

كثيرين من الناس يصفون اهل العراق بأنهم (( أهل الشقاق والنفاق )) ولاتزال هذه السمعة لاصقة بالعراق حتى يومنا هذا وطالما رأينا اهل العراق انفسهم يلهجون بها في بعض المناسبات وهو نتيجة ما اتصف به اهل العراق من ميل للجدل وولع به، والواقع ان النزعة الجدلية كانت ولاتزال قوية في العراق ولعلها اقوى فيه منها في اي بلد عربي او اسلامي اخر ومن المجدي ان استعرض شيئاً من تاريخ هذه النزعة في العراق، وكيف نشأت وتأصلت فيه.
ان من الخصائص التي تميز بها المجتمع العراقي في صدر الاسلام هو انه كان الموطن الذي قضى فيه علي ابن ابي طالب معظم ايام خلافته وهذا الرجل في خلافته كما هو معروف مثالاً رائعاً للزهد والعدل والتقوى، ولكن اهل العراق لم يفهموا كنهة في حياته ولم يقدروه حق قدره فقد كان في أواخر ايامه يشكو منهم مر الشكوى، وقال عنهم انهم ملأو قلبه قيحاً وبعدما مات سرعان ماتدعوا على مافعلوا معه، وادركوا انهم فقدوا به اماماً قلما يجود الدهر بمثله، وعندئذ اخذو ينثالون على تقديسه وتمجيده ويغالون في ذكرى مناقبه.
( صار العراق موطن المعارضة للدولة في العهد الاموي واخذت الثورات تتوالى في العراق مما جعل الولاة يضيقون الخناق على اهل العراق ويضطهدونهم، واتخذت الدولة سب علي شعار لها تخطب به على المنابر وقد أدى ذلك بأهل العراق ان يزدادوا تعلقاً بعلي وتقديساً له حيث أصبح حب علي شعاراً يعلنون به نقمتهم على الدولة )(1)
معنى هذا ان التراث الفكري في العراق مطبوعاً بطابع المثالية العلوية، فأخذ اهل العراق يحلقون في تذكيرهم المثالي تحليقاً عالياً، حيث تخيلوا به نظاماً للحياة السياسية والاجتماعية مستمداً من السيرة الفاضلة التي اتصف بها علي وهذه السيرة كان من الصعب جداً تحقيقها بعد وفاة صاحبها، خصوصاً بعد ان انقلبت الخلافة الى ملك كما اشار ابن خلدون(2) (اخذ اهل العراق يتطرفون في تفكيرهم المثالي، في الوقت الذي كانت حياتهم الواقعية تبتعد تدريجياً عن طبيعة ذلك التفكير، فظهرت فجوة واسعة بين مثلهم وواقعهم الاجتماعي وساعد ظهور مذهب الاعتزال في العراق على توسيع هذه الفجوة) وهذا المذهب يعتمد في نشر عقائده على الجدل المنطقي والادلة العقلية واتيح للمعتزلة ان يسيطروا على التفكير العراقي فترة طويلة من الزمن في عهد ثلاثة خلفاء بني العباس، المأمون ، المعتصم ، والواثق ، وان يستميلوا الدولة الى جانبهم فأثاروا قضايا جدلية كبرى، وجعلوا الناس يتجادلون حول العقائد الدينية وجاء المتوكل اخيراً فحاول القضاء على المعتزلة، واخذ يضطهدهم وقد اعانه الحنابلة في ذلك فملأو بغداد بالمظاهرات وصاروا يطاردون كل من يشتبهون به من المعتزلة ولكنهم لم يستطيعوا ان يقتلعوا من المجتمع العراقي نزعه الجدل التي تغلغلت جذورها في اعماق النفوس كان مبدأ الحنابلة يتلخص ( في قولهم من يتمنطق فقد تزندق ) لكن هذا المبدأ لم يكتب له النجاح في العراق حتى ظهر ابو الحسن الاشعري الذي كان له دور كبير في تدعيم النزعة الجدلية في العراق كان الاشعري في بداية امره معتزلياً ثم اعتنق التسنن، استطاع ان يقيم العقائد السنة على اساس الجدل المنطقي وعلم الكلام وعندئذ اخذ الشيعة يفعلون في عقائدهم مثل ذلك، بهذا صار العراق كأنه ساحة حرب استخدمت فيها سلاح المنطق بدل من سلاح السيوف واخذت كل طائفة تدافع عن عقائدها، وتهاجم عقائد خصومها عن طريق الاقيسة المنطقية والادلة العقلية ففي القرن الرابع الهجري بلغت الحضارة الاسلامية اوج ازدهارها، وكذلك بلغت فيه النزعة الجدلية اوج قوتها، فكانت بغداد حين ذاك عاصمة العالم الاسلامي ومركز الجدل المنطقي في ان واحد.
( بقية النزعة الجدلية قوية فعالة في العراق على توالي القرون فهي قد امتزجت بالنزاع الطائفي وكانت من اهم معالمه فكان العوام على توالي القرون من الطائفتين يتحاربون بالخناجر والهروات، بينما كان الفقهاء يتحاربون بالادلة العقلية وعندما حل العهد العثماني بالعراق ازدادت النزعة الجدلية فيه من جراء النزاع بين الدولة العثمانية والدولة الايرانية، فقد كانت الحضارة في ذلك العهد منحطة جداً، لكن النزعة الجدلية لم تنحط بانحطاطها وكانت الدولتان المتنازعتان تبذلان كثيراً من الجهود والاموال في سبيل تدعيم تلك النزعة بين سكان العراق وكانت كل دولة تعد ذلك نوعاً من الدعاية السياسية لها )(3)
ان النزعة الجدلية لاتزال قوية في العراق حتى يومنا هذا و انها تحولت الان من طابعها الديني القديم قليلاً او كثيراً وصارت تدور حول مواضيع حديثة سياسية واجتماعية واقتصادية او غير ذلك.
حدة الوعي السياسي في العراق
الشعب العراقي في المرحلة الراهنة هو من اكثر شعوب العالم ان لم يكن اكثرها ولعاً بالسياسة وانهماكاً فيها وكل فرد فيه تقريباً هو رجل سياسة من الطراز الاول ( فأنت لاتكاد تتحدث الى بقال او عطار حتى تجده يزن لك البضاعة وهو يحاورك في السياسة او يسألك عنها ، وقد يحمل الحمال لك البضاعة فيحاول في الطريق ان يجرك الى الحديث في السياسة وهو يزعم انه لو تسلم تقاليد الامور لاصلح نظام الحكم بضربة واحدة )(4)
ان هذا الانهماك الشديد في السياسة لم يكن موجوداً في بداية القرن العشرين فقد كان الناس يوم ذاك يتبعون أزاء الاحداث السياسية مبدأ ( انا شعلية ) ومعناه ان الامر لايهمني وليس لي دخل فيه، وكان الابو يوصي ابنه ان يتعلم مهنة يكسب منها عيشه و ان يبتعد عن السياسة اذ هي لاتعطي خبز. وهذه الاقوال تمثل لنا الاتجاه العام الذي كان مسيطراً على اذهان الناس في ذلك الحين، هذا مع العلم ان الحرب العالمية الاولى شملتهم بويلاتها اذ كان الشباب منهم يساقون الى مجازر المعارك كالاغنام، ويقول الدكتورعلي الوردي ( والظاهر انهم كانوا ينظرون الى تلك الويلات والمجازر نظرتهم الى القدر المكتوب عليهم فهو بلاء انزله الله عليهم من جراء ما اقترفوا من ذنوب )
لكنهم في الحرب العالمية الثانية اصبحوا من اشد الناس شغفاً باخبار المعارك واحداث السياسة التي تجري في مختلف ارجاء العالم ، فقد كانوا يتناقشون حولها، ربما يتنازعون ويتضاربون وامتلأت الاسواق والمقاهي والبيوت بمجادلاتهم العنيفة، وقد كان ذلك صدى لما كانوا يشعرون به من وعي حاد تجاه احداث السياسة المحلية.
والواقع ان الحدة في الوعي السياسي لم تكن مقصورة على فترة الحرب العالمية الثانية وهي لم تنشأ فيها فجأة بين عشية وضحاها بل هي قد نشأت قبل ذلك ثم جاءت الحرب فعملت على توسيع نطاقها وتركيزها في النفوس وعندما انقسم العالم بعد تلك الحرب الى معسكرين متنازعين انعكس صدى النزاع في العراق فأنقسم سكانه الى فريقين متعاديين ينهش احدهم الاخر ويريد ان يشرب من دمه.
لاشك ان هناك عوامل عديدة لعبت دورها في هذا الانقسام لكن الدكتور علي الوردي ينسب ذلك الى النزعة الجدلية التي ورثها اهل العراق ان اسلافهم وكانت من جملة تلك العوامل والتي كانت قوية الاثر في المجتمع العراقي منذ زمن بعيد والتي كانت مقتصرة على المواضيع الدينية ولم تكن لها شأن في السياسة الا قليلاً.
وعندما حلت المرحلة الراهنة في العراق، فأنفتح لها النظام الطبقي وضعفت العقيدة الدينية في الجيل الجديد اخذت النزعة الجدلية تتحول من مجالها الديني القديم الى مجالها السياسي الجديد. ومما يجدر ذكره ان المرحلة الراهنة تميزت بأحداث سياسية عنيفة فقد تناوبت فيها (الانقلابات) و (الانتفاضات) و (الوثبات) يتلو بعضها بعضاً فكان كل حدث من هذه الاحداث مدرسة شعبية تحرك الاذهان نحو السياسة وتزيد من عدد المولعين بها. وبهذا اصبح المجتمع العراقي كأنه ساحة نزال يتصاول الناس فيها بالمبادئ السياسية كمثل ماكانوا قديماً يتصاولون بالمبادئ الدينية وهم فيها بين كر وفر لايريحون ولايستريحون
تنازع الشعب العراقي
كان التنازع في العهد العثماني شديداً بين فئات الشعب المختلفة لكن تنازعه كان قائماً على اساس من العصبية القبلية والبلدية والطائفية او ماشابه، ثم مرت بعد زوال العهد العثماني فترة امدها اربعون عاماً تقريباً والظاهر ان تلك الفترة لم تكن كافية لان ينسى الشعب بها تنازعة القديم فلما حلت به ( الهزة ) عام 1958 عاد الشعب يتنازع من جديد ظهر التنازع الجديد وهو مصبوغ بطلاء من الشعارات والمبادئ الحديثة، غير انه في اعماقه القديمة يحتوي على جذور قديمة وهو غير قادر ان يتخلص منها اذ هي كامنة في ( اللاشعور ) تحاول الانفجار عن سنوح الفرصة كما يقول الدكتور علي الوردي ولهذا وجدنا الفلاح في القرية وابن الشارع في المدينة وغيرهما من العوام الذين تتألف منهم اكثرية الشعب العراقي قد اندفعوا يتظاهرون ويهتفون ويتحمسون ولكنهم في اعماق انفسهم كانوا يبتغون من ذلك مثلما كانوا يبتغون في هوساتهم القديمة وجاء بعض المتعلمين يشجعون العوام في اندفاعاتهم تلك ويؤيدونهم بالبراهين (العقلية) وانتشر الغوغاء يبحثون عن (الخونة) ليعتدوا عليهم، لست اقصد بهذا جماعة من الناس دون جماعة او حزب دون حزب فالكل في هذا سواء تقريباً او هم جميعاً ينطلقون في اطار فكري واحد ويعيشون في ظروف متشابهة.
وحين يتاح لفريق منهم ان ينتصر على خصمه يفعل به مثلما فعل خصمه به،.
او اشد منهم والنزعة العقلانية ليست خاصة بالعراق وحده بل هي نزعة عالمية بدأ بها الاغريق القدماء وانتشرت منهم الى كثير من الشعوب المتحضرة قديماً وهي لاتزال منتشرة هنا وهناك حتى يومنا هذا انها انتعشت في اوربا في اواخر القرن الثامن عشر واوائل القرن التاسع عشر وكانت من اسباب الثورة الفرنسية الكبرى لما قامت تلك الثورة جاء بعض زعمائها براقصة حسناء فجعلوها رمزاً للعقل ونصبوها على منصة في قاعة عامة ثم اخذوا يعبدونها بدل من الله، لقد كانت تلك فورة فكرية في اوربا منذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ (العقل) ينزل من عليائه، واخذت البحوث العلمية تكشف عن قصور العقل البشري وعن الحماقات التي يتورط فيها احياناً، كانت البحوث ذات تأثير غير قليل على الرأي العام في اوربا مما جعل يميل تدريجياً نحو النضوج والرصانة. ان الناس هناك لايزالون يتنازعون في الاراء والمذاهب والاحزاب لكن تنازعهم على اساس من الاحترام المتبادل، فالفرد منهم حين يعتنق رأياً لايحاول ان يفرضه على غيره بالقوى انه وحده صاحب الحق المطلق فيه، ان النظام الديمقراطي الذي يتبعونه قائم على هذا الاساس ولاشك ان ممارساتهم له جيلاً بعد جيل جعلتهم يعتادون عليه حتى صار جزءا من تقاليدهم الاجتماعية التي يسيرون عليها في بيوتهم ومدارسهم وفي ندواتهم ومجالسهم
تطبيق النظام الديمقراطي في العراق
ان الشعب العراقي منشق على نفسه وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي اكثر وليس هنالك من طريق يعالج هذا الانشقاق اجدى من تطبيق الديمقراطية.
يمكن القول ان الوضع الراهن في العراق يحتاج الى تخطيط ومعالجة موضوعية بمقدار ما تتحمله ظروفه المحلية وان من الوسائل المجدية في ذلك هو ان نحاول تعويد الشعب على الديمقراطية الحقيقية ونجعله يمارسها ممارسة فعلية، حيث تتيح له حرية ابداع الرأي والتصويت دون ان نسمح لفئة منه تفرض رأيها بالقوة او بادعائها المكون الاكبر الذي يفرض رأيها على بقية الفئات الاخرى ويجب الغاء قوانين ابرايمر ورفع اثارها السلبية على المجتمع والدولة ( الاجتثاث ومجالس المحافظات ) التي تهدد اللحمة الوطنية للشعب وتفكك الوحدة الادارية للدولة.
ان التطبيق الديمقراطية الحقيقية والتخلص من نظام المحاصصة والتوافقية واجراء التعديلات الدستورية، وبناء دولة المؤسسات دولة المواطنة هي المسار الحقيقي للنظام الديمقراطي (فليس يكفي ان يكتشف الشعب نظرياً خطأ الطريقة التي سار عليها منذ عام 2003 الى يومنا هذا بل ينبغي ان يعتاد عملياً على الطريقة الصحيحة ويدرك نتائجها في مجال التطبيق من خلال الانتخابات وفق قانون انتخابي عادل يضمن مشاركة الجميع ويكون فيه الجميع متساوون ويتساوى المرشحين في الدعاية الانتخابية وتكون موحدة)(5)
قد يعترض القارئ على هذا الرأي او يصفه بالطوبائية اذ كيف يمكن للاحزاب المتنفذة والمسيطرة على العملية السياسية ان تتخلى عن الغنائم التي حصلت عليها من خلال الفساد الاداري والمالي المستشري في السلطة ثم ينخرط في عملية ديمقراطية لافساد فيها ولانهب للمال العام.
ان هذه فرصة يجب عليهم انتهازها فالعراق الان يقف على مفترق الطريق وهذا هو اوان البدء بتحقيق النظام الديمقراطي فيه فلو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امد طويلاً فهل من يسمع ويستجيب
الهوامش
1 – علي الوردي مهزلة العقل البشري ص81 ص85
2- ابن خلدون المقدمة ص202 ص2005
3- علي الوردي (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) ص290
4- نفس المصدر ص354
5- خالد محسن الروضان ( المسار الحقيقي للنظام الديمقراطي ) ص130


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة