24 Jun
24Jun

توفي رئيس جمهورية إيران في حادث سقوط الطائرة، التي كانت تقله إلى طهران عائداً بعد مشاركته في احتفالات إحدى دول الجوار، الأمر الذي يدخل إيران في انتخابات لاختيار رئيس جديد يفضله الشعب الإيراني، في منافسة بين قائمة من ستة مرشحين اختارهم المرشد العام، لا يختلفون في النهج السياسي، وجميعهم من أنصار المرشد، ومن المؤمنين بالنظام وبشرعيته وفلسفته.ومن الواضح، من خلال ما ينشر حول أسماء المرشحين، أن دائرة الاختيار فقدت شيئاً من تسامحها بالتنوع في أسلوب العمل، وبالاختلاف في آليات الإجماع ومحتوى البيانات التي يطلقها المرشحون.
كانت لإيران تجربة مع الرئيس السابق أحمدي نجاد، الساخن في مفرداته، والمتشدد في بياناته، والمتصدي لفرق الخصوم، التي يراها عدواً للثورة الإيرانية، وبينهم الولايات المتحدة بترؤسها لتجمّع الأعداء، مدبري المؤامرات، الساعين لإضعاف الثورة وتلطيخ سمعتها وإثارة المزيد من الخصوم ضدها، واستعداء شعوب الإقليم عليها.
والحقيقة أن قيادة الثورة الإيرانية لم تجد في ذلك الموقف الحاد والناشف، الذي تبنّاه أحمدي نجاد، ما يسعدها، فحصيلته تزايد الحذر من البيانات التي كانت تصدر من رئاسته، وأدركت قيادة الثورة أن الدبلوماسية الهادئة، التي تسعى لكسب المترددين، وتعمل لطمأنة المشككين، خير لها من السلوك المستفز، الذي رافق رئاسة أحمدي نجاد.
تبدلت الدبلوماسية الإيرانية كثيراً مع الرؤساء، الذين تحملوا المسؤولية مع بدء القرن الجديد، فقد أضافوا إلى سياسة إيران الخارجية الكثير من الواقعية، واختاروا نهجاً مرناً وهادئاً مع دول الجوار، لاسيما مع دول مجلس التعاون.
استبدلت إيران بحدة المواجهات مساعي التفاهم، التي يتولّد منها الارتياح المدعوم بالثقة، وحقق هذا التحوّل تقبلاً إقليمياً حاملاً المزيد من التواصل، لاسيما مع دول مجلس التعاون، ومدركاً أن إيران الثورة لن تتخلى عن حضورها في لبنان وسوريا والعراق، ولن تتجاهل الحوثيين في اليمن، وأن الواقعية الخليجية قادرة على التعايش مع خريطة النفوذ الإيراني في أراضي الشام.
من هذه الحقائق ولد نظام إقليمي يتسم بالتعايش، معتمداً على احترام السيادة، وعدم التدخل في الشأن الداخلي، وتطويق إثارة الطائفية.
أكتب هذا المقال من تجربة عشتها كأمين عام لمجلس التعاون الخليجي، معبأة بشكوك إيرانية متضخمة، بتصوراتها عن أهداف المجلس، فكان الدبلوماسيون الإيرانيون، الذين أراهم في الأمم المتحدة خلال الدورات السنوية للمنظمة، يحيوني بأنني أمين عام حلف الناتو الخليجي، كانت جماعة أحمدي نجاد أتعسهم وأكثرهم شراسة.
والحقيقة أن الوضع الحاضر يتميّز بيقين متبادل، بأن أفضل آليات التعامل بين إيران ودول المجلس هي الدبلوماسية الناعمة، مع إدراك الطرفين أن إيران ستكون سعيدة باتساع نفوذها، ليس فقط في المناطق التي لها قواعد التفوق والحضور، وإنما ستفرح إذا امتدت أصابعها إلى شيء جديد من تراب مجلس التعاون.
والفرق بين الأمس واليوم، أن الدبلوماسية الإيرانية صقلتها التجارب، وتعلمت كثيراً من اتساع احتكاكها مع مختلف المناطق، لاسيما مع كثافة حضورها في قضايا شرق آسيا، وتداخلها مع كل من الصين وروسيا، كما وقفت على الأضرار التي تصيبها، إذا ما توسعت في نهج العنف، لاسيما بعد فضيحة الأرجنتين وإفرازاتها في مواجهة دول أمريكا الجنوبية.
فرغم المبالغات السياسية والإعلامية في المساعي، التي تبنتها إيران لتحقيق أهداف الثورة الإيرانية، فإن خزينة إيران الواقعية تبقى واسعة وثرية، جمعتها إيران منذ الإمبراطورية الفارسية، واستوطنتها منذ ذلك التاريخ، ويمكن الإشارة إلى أن سقوط حكم الشاه في 1979 خرج من تجاوز إيران حائط الواقعية، وتعالي الشاه على دروسها التاريخية، إيماناً منه بصلابة النظام الذي ساهم في بنائه، واعتبره حارساً صادقاً وموالياً.
تبقى أهداف الثورة الإيرانية يصيغها المرشد العام، ولن تتبدل، فرئيس الجمهورية المنتخب يتولى الإشراف على مأمورية تنفيذ الأهداف داخلياً، خاصة في مجالات التنمية وتأمين البنية التحتية، ويتابع العالم الآن مسار إيران في دعم نظام الحوثيين في اليمن، وتسليحها لجيش الحوثي، الذي يواجه قوات بحرية أمريكية وبريطانية، ويتبنى المواجهة وتحدياتها، مسنوداً من المرشد العام، فلا دور لرئيس الجمهورية فيما يخص الثورة وأهدافها الفكرية والسياسية، فلا علاقة للانتخابات الداخلية في مسارها، الذي يبقى في حضن المرشد العام، حاشداً الحرس الثوري، وهو جيش الثورة وحاميها، وناقلاً الأهداف إلى مختلف المناطق التي يمكن الوصول إليها، ولا مكان لرئيس الجمهورية ووزرائه في ساحة الحرس الثوري، مع تطويع الدبلوماسية الإيرانية للدفاع عن سلوكيات الحرس، وحماية المنجزات التي يحققها، فهو جيش الثورة، لا يزعجه حجم الأضرار في لبنان، ولا شأن له بالمعاناة التي يسببها وجوده في سوريا، كما يتمتع بتحالفات وتفاهمات مع بغداد، وفوق ذلك، يساند جيش الحوثي في معاركه ضد النظام اليمني الشرعي، وضد قطع السلاح البحري الأمريكي.
نعود إلى انتخابات رئاسة الجمهورية المنتظرة في طهران، فقد اكتشفت السلطة العليا في إيران أن دبلوماسية المواجهة والتحدي لا تنفع مع عدد كبير من شعوب العالم، ولن تتقدّم مصالحها بالتشدد، لاسيما مع الشيطان الأكبر، الذي تجسده الولايات المتحدة ومن يساندها من الدول الأوروبية، ولن يحل مشاكلها اقترابها من الصين وروسيا وكوريا الشمالية، رغم كراهيتها للنظام الشيوعي، وتبقى علاقاتها مع دول مجلس التعاون، وحجم الودية في هذه العلاقات، هما المدخل، الذي يؤمن لها طريق القبول من المجتمع العالمي، فسلوكها مع دول الجوار، ونوع الأسلوب الذي توظفه للتعامل مع دول الخليج، يظلان الأهم في زراعة ثقة العالم بسلوكها.
تحسنت العلاقات مع دول المجلس، وأعيدت مع المملكة، فأغلقت مدرسة أحمدي نجاد، وفضلت إيران طريق الاعتدال في الطرح ونبذ الغلاظة، التي تسيدت الفصول الأولى من حياة الثورة الإيرانية، وتبنت تعظيم التواجد في اللقاءات العالمية، متخلية عن المناطحة إقليمياً وعالمياً، وانضمت إلى التجمع الصيني - الروسي، في تأكيد خصومتها ضد الشيطان الأكبر، التي انطلقت في عهد آية الله الخميني.
ورغم كل هذه التموجات في الدبلوماسية الإيرانية، وتحسّن نهجها نحو الاعتدال، تبقى بعض الحقائق المزعجة في دبلوماسيتها، أهمها حصانة الحرس الثوري، والتصاقه بالمرشد العام، وحمايته من التدخلات، وتسيّده المطلق في التدخلات الخارجية وفق توجهات المرشد العام، وفوق ذلك، انعدام أي دور لرئيس الجمهورية فيما يتعلق بالشأن العسكري، وأكثر من ذلك، انكشاف دور الدبلوماسية الإيرانية، وضيق حدودها، وغياب دورها فيما يخص سلوك حرس الثورة.
والخلاصة أن انتخابات الرئاسة في إيران، ودور الرئيس المنتخب، يبقيان في محيط الدبلوماسية المسالمة الناعمة، لا تأثير لهما في الاستراتيجية الإيرانية الإقليمية والدولية، وستواصل إيران هذا النهج طالما استمر المرشد العام الحالي يقود دبلوماسية إيران.


* نقلا عن "القبس"


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة