لا شك ان الشخصية العراقية في تبلورها الراهن بعد اربعة عقود ونيف من الحروب الخارجية والداخلية، مع الغير والذات، اظهرت صفات جديدة غير ازدواجيتها بين البداوة والحضارة كما رصدها عالم الاجتماع العراقي في القرن الماضي الدكتور علي الوردي، وتوسع في رصد المؤثرات الاخرى التي صاغت هذه الشخصية في ما اسماها الظلالات العثمانية وفقهاء السلف واتجاهات الردة الى الجاهلية، وبقيت هذه الاستخلاصات الموزعة على ثماني كتب من (لمحات عن تاريخ العراق الحديث) مصدرا لطلاب المدارس والباحثين والمعنيين بمعرفة احوال العراق ومنهم سفراء الدول الاجنبية الذين وجدوا فيها مستدلات الى نجاح مهماتهم، ومما له مغزى ان يعتمد باحث كبير مثل حنا بطاطو على الكثير من اطروحات ومعاينات الوردي. على ان موضوعة الصراع بين البداوة والمدنية في الشخصية العراقية لم تحل نفسها على التقاعد، رغم تصويبات واضافات جديدة في علم الاجتماع، فثمة إرهاصات لهذا الصراع في شرائح مناطقية محدودة في العراق، لكن ثورة المفاهيم التي اطلقها عصر التحولات والتنوير شملت “وصفات” الوردي المركزية (عن البداوة والحضارة) وصار يُنظر الى الشخصية العراقية من وجوه متعددة، في نقطة انخراطها في صراعات طائفية وقبلية ومناطقية وثقافية شديدة التعقيد، ليُنظر (مثلا) الآن الى حال جماعة النواب في البرلمان الذي يُفترض ان يكون صورة مقربة (الى حد ما) من احوال المجتمع العراقي وهو في حالة التشظي والصراع الفرعي الذي يستمد وقودة من عصبيات الولاء للعشيرة والطائفة والقومية.. حتى ليتساءل قاري الوردي: اين البداوة والمدنية فيما يجري؟. والحال، ان الفرص المتاحة امام العقل الجمعي العراقي الراجح، المسؤول، اغتيلت على يد الاستبداد والعصبيات والانشقاقات والمفاسد والمحاصصات الكونكريتية، فضلا عن رثاثة الادارات السياسية، وانانية اصحابها، وضعف ارادة بناء الدولة، وفساد يدها وسمعتها، فيما تراجعت دعوات الترشيد ودق نواقيس الخطر، كما هي دعوة العالم الوردي عام 1965حين رصد مسارا ضئيلا ومشجعا لترشيد الحكم فهتف: “هذه فرصة يجب علينا انتهازها، فالعراق الآن يقف على مفترق الطريق، وهذا هو أوان البدء بتحقيق النظام الديمقراطي فيه، فلو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امدا طويلا”.. الامر الذي يبرر ما كتبه احد الباحثين الشباب الذي وقفوا على اطلال متداعية لقيم المجتمع العراقي الجديد بالقول: اين انت يا علي الوردي؟.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"