لم تتأخّر التوقعات كثيراً بشأن توجهات قائد قوات فاغنر الروسية الخاصة، يفغيني بريغوجين، هذا الجنرال الغاضب دائماً بسبب تعامل القيادة معه ومع قواته، واعتبارهما درجة ثانية، على الرغم من الخدمات الجمّة التي قدّمها للكرملين في أوكرانيا وأفريقيا وسورية، وغيرها من مناطق التمدّد الروسي الجديدة. من الطبيعي أن تنعكس فترة السنة ونصف السنة من قتال القوات الروسية العبثي في أوكرانيا، على هذا البلد، وتجعل تداعيات غزوها إياه تظهر إلى العلن تباعاً، وهي التي ظهرت بدايةً على شكل انتكاساتٍ ألمّت بالجيش والاقتصاد الروسيين. ولا يأتي تمرّد قوات فاغنر على الكرملين، ليشير إلى ما يمكن أن يؤدّي إليه اعتماد دولة بحجم روسيا على مليشيا من المرتزقة، بقدر ما يشير إلى الضعف التكويني الذي يؤدّي بهذه الدولة إلى استمرار في الاعتماد على المليشيا. نظراً إلى الإجراءات السريعة التي اتّخذتها الحكومة المركزية في موسكو وغيرها من المناطق، والتي شملت إعلان تفعيل نظام مكافحة الإرهاب في العاصمة، وتقييد الحركة والنقل على الطرقات العامة وفي نهر موسكو، ثم التي تبعها انتشار قوات في العاصمة وإقامة حواجز فيها وإرسال تعزيزاتٍ أمنية مكثفة إلى مداخلها، يمكن الاستنتاج أن القيادة عرفت أن ثمة تهديدا جدّيا. وبعد الكلمة التي ألقاها بوتين واتهم فيها فاغنر بخيانة روسيا، ربما لا يكون لدى موسكو مخاوف من قوات بريغوجين وحدها، بل من المحتمل أن لديها شكّا في إمكانية انضمام قوات أو جنرالات غاضبين آخرين إلى قواته، ومن إمكانية اتفاقهم على الترتيب مع "فاغنر" لمرحلة ما بعد إطاحة القيادة في الكرملين، والتي أفصح عنها بريغوجين، عندما قال: "بوتين أخطأ، وقريباً سيكون لنا رئيس جديد"، غير أن وساطة بيلاروسيا تاليا هدّأت من كل هذه المخاوف، وأتاحت أفقا لتسوية مرتقبة، وأوقفت انزلاقا إلى اقتتال واسع.
هل من الممكن أن يكون قد غاب عن بال بوتين أن أي جيش أو مليشيا توظفها في حربك الخارجية ستعود إلى الوطن وفي جعبتها مطالب كثيرة تتناسب مع حجم التضحيات التي قدّمتها؟ مطالب تنحصر، في حالاتٍ كثيرة، في المطلب الأوحد؛ كرسي الحكم الذي تعدّه حقها بعد ما قدّمته للبلاد. ولكن، في حرب أوكرانيا اقترف بوتين الخطأ الذي لا يمكن أن يُغتفر، وهو جعل هذه الحرب تتواصل وتستمرّ لتصل إلى المدى الذي يجعل تداعياتها تفوق التوقّعات الذي وضعها هو ومن شاركه في هندستها. وفي حالته هذه، فسحت إطالة الحرب التي لم تحقّق أي نتائج تُذكر، المجال لظهور الغضب الذي وإن كنا لم نره إلا في حالة بريغوجين، فذلك لا يعني أنه ليس مكبوتاً لدى جنرالاتٍ آخرين، يخافون إن أظهروه أن يقع عليهم غضب الكرملين الذي يعرفون حجمه والآلام التي قد يسببها لهم.
كانت رسائل بريغوجين المتلفزة، الغاضبة وشبه اليومية، التي كان يرسلها خلال المعارك في أوكرانيا تلخيصا لحال روسيا والجيش الروسي، وكذلك لسخطه على القيادة، والذي تطوّر حتى وصل إلى مرحلة التمرّد عليها. ولم تكن التحذيرات والشكايات التي كان يبثّها سوى إشارة إلى الوضع الحقيقي الذي بات هذا الجيش يعيشه والمعاناة التي عايشها، والتي عكست حقيقة الدولة الروسية، ومكامن الضعف فيها، وحقيقة الحرب التي ربما أراد منها الكرملين أن تكون سبيله لتصدير أزماته أو محاولة التخلّص منها. ولم يقيّض لأحدٍ سابقاً أن انتقد القيادة الروسية بالجرأة التي فعلها بريغوجين وهو يتحدّث عن الفساد في توجيه السلاح لقواتٍ روسية ومنعه عن أخرى. وقد أراد أن يوحي، في رسائله، وكأن له ثقلا يوازي ثقل القوات الأساسية عسكرياً، وثقل القيادة في الكرملين سياسياً حين أظهر نفسه الوحيد القادر على انتقادها. وجاءت رسائله لتؤكد الأنباء التي كانت تخرج بين الفينة والأخرى حول نقص السلاح من قذائف وصواريخ وطائرات من دون طيار، ما يفضح الموقف في روسيا، ويثير الجدل حول قرار الحرب الذي اتخذته القيادة، ثم قرارها في مواصلتها على الرغم من العجز الذي باتت عليه قواتها، والضعف الذي أصاب اقتصادها بسبب العقوبات الغربية والحصار المفروض عليها بسبب الغزو والاستنزاف الذي يتطلبه استمرار المعارك.
تبيّن بعد غزو أوكرانيا أن روسيا تعاني أزمةً تكوينية، تكمن أسبابها في القيادة الديكتاتورية التي تحكّمت بالبلاد أكثر من عقدين، وصادرت القرار السياسي والاقتصادي طوال هذه الفترة، وأسّست لدكتاتوريتها التي حرصت على منع أي صوت معارض. من هنا، تبيّن أن الاقتصاد الروسي، والمصنف ريعياً، لم يستطع التطوّر عبر توظيف فائض الثروة التي كانت تتراكم بفضل تصدير النفط والغاز والسلاح في التنمية المستدامة، وتنويع مصادر الدخل عبر صناعاتٍ متطوّرةٍ يملك الاقتصاد الروسي البنية التحتية والإمكانات البشرية والمادّية للتفوّق فيها. وإذا كانت لدى الاقتصاد الروسي تلك القابلية قبل الحرب، فإن هذه القابلية قد انعدمت بعدها، ووصل هذا الاقتصاد إلى نقطة اللاعودة مع ظهور إلى التمرّدات العسكرية على يد بريغوجين، والتي يمكن أن تظهر لدى جنرالات آخرين في أي لحظةٍ إذا ما لمسوا ضعفاً لدى بوتين.ولكن، ألا يحمل خطاب بوتين الذي تحدّث فيه عن التمرّد ضعفاً؟ في الخطاب قلقٌ كبير بدا واضحاً حين تحدّث عن التمرّد الذي حصل سنة 1917 ضد القيصر، وهو التمرّد الذي تكلّل بانتصار ثورة أكتوبر. فهل بوتين على قناعة أن نظامه ضعيف، ويمكن لأي حركة تمرّد منظّمة أن تهزّه أو تُحدث فوضى كبيرة أو حتى تؤدّي إلى سقوطه؟ وفي كل الحالات، لم يكن للأمور أن تصل في روسيا إلى ما وصلت إليه هذه الأيام، وتظهر فيها قوتان عسكريتان متعارضتان، إلا بسبب الدكتاتورية التي منعت أي صوتٍ معارض للحرب، وقبل ذلك، أي صوتٍ معارض لأسلوب الحكم الذي أضعف روسيا واقتصادها، وجعلها على شاكلة الخطاب المهتز الذي خرج به بوتين حين أقرّ بالخطر.
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *