القلق الغربي من التحالف غير المعلن بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية، دفع معظم الدول الغربية لتناسي خلافاتها، وتكثيف جهودها وتنسيق سياساتها العسكرية والاقتصادية لمواجهة التحديات المحتملة للصين وحلفائها.
وأبرز دليل على هذا التوجه هو التقارب بين اليابان وكوريا الجنوبية، رغم العداء التأريخي العميق بينهما، الذي تسبب به الاحتلال الياباني لكوريا في الفترة (1910-1945)، إذ لم يتمكن البَلَدان خلال ثمانية عقود من التحالف مع الولايات المتحدة، من التغلب عليه، رغم أنهما بَلَدان ديمقراطيان وينتميان إلى المعسكر الغربي.
زعيما البلديْن، الياباني كيشيدا فوميو، والكوري الجنوبي، يون سوك-يول، تمكنا من طي صفحة الماضي الأليم، أو وضعِها جانبا، وفتحِ صفحة جديدة هذا العام، ربما بضغط من واشنطن، التي تسعى للتنسيق بين حلفائها لصياغة موقف مشترك تجاه الصين.
الرئيس يون بادر بزيارة اليابان في مارس الماضي، وأمضى يومين في طوكيو لبحث مستقبل العلاقات الكورية الجنوبية-اليابانية، وكيفية التعامل مع الصين وكوريا الشمالية، وهما البَلَدان اللذان يشكلان خطرا عسكريا واقتصاديا عليهما، فالتسلح النووي في كوريا الشمالية يقلق كوريا الجنوبية، وتهديد الصين بضم تايوان، يقلق اليابان، إضافة إلى التحدي الاقتصادي الذي تشكله الصين على البَلَدين وحليفتهما الولايات المتحدة.
وقد رد كيشيدا بزيارة كوريا الجنوبية في مايو الماضي، وهي الأولى منذ 12 عاما، لاستكمال المباحثات ومواصلة التنسيق بين البلدين. ومن أجل إشاعة الأجواء الودية بين الكوريين، الذين مازالوا يتذكرون بمرارة ما فعله الجيش الياباني أثناء احتلاله كوريا، من أعمال السخرة وانتهاكات حقوق الإنسان، إلى ممارسات أخرى مازالت خلافية بين البلدين، صرح كيشيدا بأنه “يشعر بالألم كلما تذكر معاناة الكوريين أثناء الاحتلال الياباني لبلدهم”، حسب وكالة رويترز.
هل يمكن أن تُنسي التعابير الودية التي أطلقها كيشيدا، الكوريين ما فعله الجيش الياباني بهم، خصوصا إجبار النساء على العمل في بيوت الدعارة، وإجبار الكوريين على العمل مجانا وتبني أسماء يابانية، وممارسات تهدف إلى طمس الهوية الكورية؟ من الصعب محو هذه الأمور كليا من الذاكرة الكورية، لكن القطيعة مع اليابان تديم العداء وتؤججه، وأن أفضل وسيلة لمحو مرارة الاحتلال، هي تطوير العلاقات بين البلدين وطي صفحة الماضي.
هناك تحديات آنية ومستقبلية لكلا البلدين ولابد من الاستعداد لها، فالمستقبل في نظر الشعوب العصرية أهم من الماضي، واليابان وكوريا الجنوبية تقفان في خندق واحد، للتغلب على التحديات ومواجهة الأخطار المحدقة بهما. الكوريون طالبوا اليابان مرارا بالاعتذار ودفع التعويضات، لكن اليابان قاومت هذه المطالبات، وإن كان مجرد الاعتذار سهلا، فإن تقديم التعويضات عما تركه الاحتلال الياباني خلال 35 عاما سيكلفها ثمنا باهظا، إضافة إلى أنه مرفوض شعبيا.
الرئيس يون، الذي ينتمي إلى حزب “قوة الشعب” المحافظ، الذي لا يثق كثيرون من أعضائه وقياداته باليابان، أبدى شجاعة نادرة عندما حاول طي صفحة الماضي عبر إجراءات عملية، منها مثلا تعويض المتضررين من الاحتلال الياباني عبر إنشاء صندوق لهذا الغرض، يموَّل من القطاع الخاص، إذ لا يمكنه أن يحسِّن العلاقات مع اليابان إن بقي ضحايا الاحتلال الياباني دون تعويض.
الولايات المتحدة سعت بقوة لترسيخ العلاقات بين حليفتيها الآسيويتين، فلا يمكنهما التأثير إقليميا ودوليا إن بقيتا متخاصمتين، لذلك قرر الرئيس جو باين أن يدعو الزعيمين الكوري والياباني إلى مؤتمر يعقد في 18 من الشهر الجاري في منتجع كامب ديفيد، الذي استضاف محادثات ومصالحات ومعاهدات تأريخية عديدة، منها مشاورات زعماء التحالف في الحرب العالمية الثانية، في عهد الرئيس روزفلت، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1978، في عهد الرئيس كارتر، والمفاوضات بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود باراك، في عهد الرئيس كلنتون.
ويتوقع المراقبون أن تركز القمة الثلاثية على تعميق الروابط الدفاعية بين البلدان الثلاثة في مواجهة الصين وكوريا الشمالية وروسيا، لكن التنسيق الاقتصادي والتكنولوجي سوف يتعزز هو الآخر، خصوصا توطيد سلسلة الإمدادات في مجالي الطاقة والموصِلات. ومن المتوقع أن يعلن القادة الثلاثة عن اتفاقية تُنظِّم المصالح والاهتمامات المشتركة، خصوصا المتعلقة بالاقتصاد والأمن والدفاع.
وكان وزراء الدفاع في الدول الثلاث قد عقدوا اجتماعا في 3 يونيو الماضي، على هامش مؤتمر الأمن الآسيوي المنعقد في سنغافورة، أعلنوا فيه تعزيز التعاون بين دولهم، بما في ذلك تبادل المعلومات حول قواعد إطلاق الصواريخ الكورية الشمالية، والالتزام بنزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية، بموجب قرارات الأمم المتحدة.
ووفقا لبيان البنتاغون الصادر في 3 يونيو، فإن الدول الثلاث أعربت عن قلقها العميق وإدانتها لأسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية التي تصَنِّعها كوريا الشمالية، والتي “تشكل خطرا داهما على الأمن والاستقرار العالميين، وأنها ملتزمة بمعالجة هذه الأخطار عبر تنسيق الجهود بينها”.
وكان هناك اجتماع ثلاثي آخر، هو الثاني عشر حتى الآن، جمع وزراء الدفاع، الأميركي والأسترالي والياباني، في الفترة نفسها، أعلنوا فيه، وفق بيان آخر للبنتاغون، التزامهم بالعمل المشترك لدعم الأمن والاستقرار الإقليمي. كما أعرب الوزراء عن قلقهم من تزايد المخاطر في بحر الصين الجنوبي “والمحاولات الفردية لتغيير الأمر الواقع بالقوة أو الإكراه، الأمر الذي سيفاقم التوتر في المنطقة” في إشارة واضحة إلى تهديد الصين بضم تايوان بالقوة. وذكر البيان أن الوزراء يرفضون “ادعاءات الصين وأفعالها المخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقانون البحار، والتي تنتهك القواعد والأعراف الدولية”. كما أشار إلى أهمية التعاون مع الفلبين، ورحَّب باجتماع الوزراء الثلاثة بوزير الدفاع الفلبيني.
التعاون بين الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين يتشعب ويترسخ، ويمتد ليشمل دولا أخرى ومجالات أوسع، خصوصا مجال الموصِلات الذي تحاول الدول الغربية حرمان الصين من تقنياته المتطورة. شركة سامسونغ الكورية الجنوبية، مثلا، تخطط للاستثمار في مصنع جديد للموصِلات في اليابان، حسب مجلة الإيكونوميست، ما يشير إلى تقارب البلدين.
الصينيون غاضبون من هذه التحالفات التي يديرها الأميركيون، وتستهدفهم بالدرجة الأساس، وكان الاستياء واضحا في خطاب الدبلوماسي الصيني الرفيع، وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، وانغ يي، في المنتدى الثلاثي (الصيني-الياباني-الكوري الجنوبي) المنعقد مطلع يوليو الماضي في مدينة كينغداو الصينية. لقد خاطب يي اليابانيين والكوريين قائلا “يمكنكم أن تصبغوا شعركم أشقر، وأن تجعلوا أنوفكم رفيعة، لكنكم لن تصيروا أوروبيين أو أميركيين أو غربيين. علينا أن نعرف أين هي جذورنا”، وفق تسجيل للخطاب نشرته جريدة (بيزنز إنسايدر) الهندية.
الجهود الأميركية لتطويق الصين، عبر التحالف مع جيرانها، نجحت حتى الآن، فاليابان تخشى قوة الصين العسكرية والاقتصادية، وكانت أول من شخَّص خطرها عام 2010، بينما تخشى كوريا الجنوبية تسلُّح كوريا الشمالية، وترحب باستضافة أسلحة أميركية نووية رادعة. أما أستراليا فتحولت إلى خصم علني للصين، وقد وصفها الإعلام الصيني بأنها “علكة عالقة في كعب الصين”!
أما الفلبين فهي أقدم حليف للولايات المتحدة في منطقة (إندو-باسيفيك)، وفق بيان البيت الأبيض بتأريخ 1 مايو 2023، “وأن هذا التحالف خدم الأمن والسلام والازدهار للولايات المتحدة والفلبين والمنطقة برمتها”. ويفصِّل البيان في مجالات التعاون المشترك، ويُدرِج بينها المناورات العسكرية المشتركة التي جرت في أبريل الماضي، (باليتاكان)، ويصفها بأنها الأوسع حتى الآن، بالإضافة إلى التعاون “لمعالجة النشاطات البحرية غير القانونية”.
الأميركيون عازمون على توسيع تحالفاتهم الآسيوية، وضم، أو تحييد، الدول الأخرى في صراعهم مع الصين. الرئيس بايدن يعلم بأن منافسيه الجمهوريين لن يعارضوا مساعيه في هذا الاتجاه، لذلك فإن بإمكانه أن يحقق نجاحا مؤكدا دون معارضة.
قناة “سي أن أن” نقلت في 8 أوغسطس الجاري عن بايدن قوله إنه سيزور فيتنام قريبا “لأن فيتنام تسعى لرفع مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة إلى المستوى الاستراتيجي”. وهذه الزيارة تتلو زيارة أخرى قام بها وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، إلى هانوي في أبريل الماضي. وعلى الرغم من العداء السابق بين واشنطن وهانوي، والحرب المدمرة التي دارت بينهما في السبعينيات، والتي انتهت بهزيمة مريرة لأميركا، إلا أن البلدين تصالحا قبل عشر سنوات ووضعا الماضي خلفهما، بل أقاما “شراكة شاملة”، لكنها ظلت في حدودها الدنيا، مقارنة مع الشراكة مع روسيا والصين، وفق جريدة (الدبلوماسي) الأميركية المتخصصة في الشؤون الآسيوية.
قد تبدو الصورة وردية للأميركيين، باعتبار أن نجاح أميركا في نسج تحالفات قوية متوقع، إلا أن هناك صعوبات لا يمكن إغفالها، منها مثلا أن كوريا الجنوبية حذرة من أن تبدو معادية للصين، التي تتحالف مع كوريا الشمالية. وهناك أيضا حدود للتعاون الكوري-الياباني، فالعداء التأريخي بين البلدين متأصل، ومن الصعب أن يتقبل الكوريون وجود قوات يابانية على أراضيهم. أما الفيتناميون، فلا يريدون أن يزعجوا الصينيين، وربما سبب جمود “الشراكة الشاملة” مع أميركا، هو الخشية من إزعاج الصين. اليابان لا تستطيع أن تتحالف عسكريا مع أي دولة لأن ذلك يتعارض مع دستورها، الذي وضعه الأميركيون لها بعد الحرب العالمية الثانية! وفي كل الأحوال فإنها، وإن كانت ترغب في الحماية الأميركية، بل تعتمد عليها منذ 1945، لكنها لا تريد أن تتحول إلى عدو علني للصين.
إن تمكن الأميركيون من إقناع اليابانيين والكوريين الجنوبيين على التوقيع على معاهدة ملزِمة للتعاون العسكري والتكنولوجي، وتنسيق الجهود بينهم، وهذا ما توحي به أجواء كامب ديفيد، التي تعلن فيها المعاهدات والاتفاقيات والمصالحات التأريخية، فإن هذا التحالف سوف يكون فاعلا وقابلا للحياة، بل سوف يدفع دولا آسيوية أخرى للدخول فيه. وإن تمكنت واشنطن من كسب فيتنام، أو على الأقل دفعها للحِياد في الصراع مع الصين، فإن لاوس، التي تسير في فلك فيتنام، هي الأخرى ستنضم للتحالف.
الأميركيون ناجحون تأريخيا في إبرام التحالفات، خصوصا في أوقات الأزمات، بسبب إمكانياتهم المادية والعسكرية والتكنولوجية، وهيمنتهم على النظام المالي العالمي، لكن عامل الزمن قد لا يخدمهم هذه المرة. هناك انقسام عميق في المجتمع الأميركي، وفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية قد يقلب هذه التحالفات رأسا على عقب، رغم تشدده مع الصين، لكن سجله السابق غير مشجع، فقد أضعف تحالفات أميركا حتى مع حلفائها التأريخيين في أوروبا، بل هدد بالانسحاب من حلف الناتو. الرئيس يون لديه منافسون مناهضون للتقارب مع اليابان، وإن نجحوا في إزاحته عن السلطة، فإن التقارب الياباني-الكوري سيكون في مهب الريح.
المساعي الأميركية الواسعة النطاق لتطويق الصين ومحاصرتها اقتصاديا وتخويفها عسكريا، قد تقنع الصينيين بتخفيف موقفهم المتشدد من تايوان، وقد تدفعهم لإعادة النظر في مواقفهم الأخرى، خصوصا محاولة السيطرة على بحر الصين الجنوبي. لكن موقف الصين مازال قويا، إذ لديها تحالفات وقوة اقتصادية كبيرة وعلاقات قوية مع العديد من دول المنطقة، لكن تزايد التحالفات الأميركية المحيطة بها، وتنامي شدتها، سوف يضطرها لمراجعة مواقفها وإعادة حساباتها.
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *