31 Jul
31Jul

ساد الاعتقاد  لدى اغلب النخب الثقافية والفكرية والعلمية بأن الفلسفة تعني بمفهومها العام ( دراسة طبيعية للواقع  والوجود .. ويمكن عن طريقها معرفة السلوك الاجتماعي  والاستدلال عليه وفق منطق العقل واللغة   ) ، ولكونها اضحت من العلوم الاساسية التي نشأت على اسس مشتركة  ركائزها  ( العالم ، المفكر ، المتخصص  ) في الثقافة والعلم والمعرفة  سعت الى تفعيل اقصى طاقات العقل والمنطق للوصول الى اصل الوجود والأشياء وحقيقة العلوم التي يحتكم لها الافراد  ، لذا لا يمكن حصرها في مدة زمنية دون اخرى فهي علم حضاري وإنساني تم اكتشافه وتطور وفق تسلسل زمني طويل بجهود علماء ومفكرين وفلاسفة من كل بقاع الارض ، وهذا ما ساعد في تكوين مدارس  فلسفية متعددة أثرت العلوم والفنون والمهارات  وطورتها ونمت روح الابداع والتفكير في جميع مفاصل الحياة حتى اصبحنا نرى تسارع  التغيير والتطور في كل حقبة وجيل من  الزمن .وبضوء هذه المعطيات لربما يسال البعض أين موقع الفلسفة في حياتنا  ، ما دورها في عصر التطور العلمي  ( العولمة والمعلومات والرقمنة  ) ما اهميتها  في حياتنا المعاصرة كأداة نسترشد بها لتجاوز المحن والتحديات التي تواجهنا  ،هذه الاسئلة وتداعياتها تلخص لنا أزمة وجود الفلسفة في فكرنا المعاصر هذا .


لو نرجع الى الوراء قليلاً وتحديداً في القرن التاسع عشر الذي وصل فيه العلم مرحلة متقدمة بعض الشيء رأى قسم من المفكرين ومنهم ( اوجست كونت  ) صاحب المراحل الثلاثة في تاريخ الفكر الانساني ، ان هذا القرن سجل موعد رحيل الفلسفة ونهايتها ، وأكد ايضاً ( كارل ماركس ) في كتابه ( بؤس الفلسفة ) بروز التكنولوجيا  والعلم أصبح كل شيء  فيهما خاضع للتجربة والمشاهدة وأعطت نتائج ملموسة واضحة للعيان وما عدا ذلك عدها من الاوهام  .
وهذا يدعونا للتساؤل ايضاً هل ان الفلسفة فد انتهت مهمتها في تطور العلم والتكنولوجيا ؟ وللإجابة على ذلك يمكننا القول ..
ان وجود فلسفة جديدة متزامنة مع أي عصر تؤدي الى التغيير في ذلك العصر وتشكل انعطافة مهمة في المجتمع وتحدث تغيرات جوهرية في سلوكه ونظرته للحياة العامة  والعلم على حد سواء .


حكومات حقيقية
لذا وبحكم التطور العلمي نرى الحياة  الان ومستقبلاً بأنها  ستشهد فلسفة  جديدة اكثر تغيراً وسوف لن تكون هناك  حكومات حقيقية بالمفهوم  العام  بل حكومات الكترونية ، تسيطر على الناس توجههم  وتتحكم في اهوائهم وميولهم ، وسيكون المجتمع وعلاقاته الاجتماعية مختلف في بنيته المعرفية والثقافية  ، بمعنى ان الفرد سينال حريته من تسلط السلطة ومؤسسات الدولة  وأجهزتها ستصبح مجرد معالم عفى عليها الزمن  وسيتعامل معها بقدر محدود جداً وفق الحاجة الفعلية القصوى  ، فلا حاجة  للفرد الخضوع لتوجهات السلطة  أو الحكومة وان الامر سيكون مختلف تماماً بعد ان كان الانسان يضع حريته وكرامته  فوق كل اعتبار ويعبر عن استياءه وغضبه ورضاه عما يجري حوله من احداث بسلاح الفلسفة والدين والمظاهرات السلمية ، هذا لن يكون لأنه لن تكون هناك حكومة بالمعنى المتعارف عليه لكي يقاومها ويتظاهر ضدها للمطالبة بحقوقه المشروعة ، وحتى النظرة الفلسفية للعمل ستتغير مستقبلاً ايضاً ، بعد ان كان العمل يعد اساس بناء المجتمعات وشقاؤها وبسببه تحدث الثورات والانقلابات وتسقط حكومات  ، سيتغير مقروناً بمفاهيم جديدة أدواتها التسلية  وألهو والإبداع لأننا في عصر التقنيات والمعلومات والاتصالات التي قربت البعيد حتى جعلتنا نعرف ما يدور حولنا من احداث ومواقف  وتطورات في أوقات زمنية قصيرة المدى  .


ولتعزيز ما نقول فان للتاريخ كلمة  بشان الموضوع ، قيل ان الفلسفة العربية قد توقفت عند ابن رشد (1126- 1198 م ) والى الان لا وجود لفلسفة عربية اصيلة  ، وان كل ما يردده البعض بوجود فلسفة جديدة  في عصر المعلوماتية لن تكون اصيلة بمفهومها العام  ، لأنها ستكون عالمية اممية انسانية عابرة للحدود ليست بنت مجتمعها وإنما بنت عصرها ألا وهو عصر التقنيات والمعلومات  .


وهناك من يقول ايضا للغرب فلسفة وللشرق فلسفة وهذا كلام صحيح في بعض جوانبه ولكن في القرون والعصور الماضية ، اما اليوم ونحن في عصر انفجار المعلومات وتطور الشبكة العنكبوتية وبروز الفضائيات بتقنياتها العالية وامتداد شبكة مراسيلها  قلصت الفجوة وقربت المسافات حتى اصبحنا قرية مغلقة تداخل فيها الشمال والجنوب والشرق والغرب وبالتالي سيتأثر كل منا بالأخر وسيتم تداول عادات وتقاليد  وقيم وسلوكيات كانت غريبة علينا في الزمن الماضي .. والدليل استوردنا واستخدمنا التكنولوجيا الغربية  ونقلتنا الى عالم اخر حتى لبسنا لباسهم وعرفنا عاداتهم وتقاليدهم  وهم ايضا عرفوا الحياة الشرقية وعاداتها وتقاليدها  وتأثر البعض بها وببساطتها ،  والفضل في ذلك يعود بطبيعة الحال الى عصر المعلومات والاتصالات التي جعلت العالم اكثر اندماجاً  في معرفة كل ما يدور في محيطه المحلي والإقليمي والدولي بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات وتوابعها الصناعية والرقمية التي تخطت كل الحواجز المادية والسياسية حتى عرفنا حياة الاخر وأنماط استهلاكه وتطلعاته المستقبلية في العالم اجمع .


 لان الارض اصبحت مغطاة بالفضائيات وقنواتها وبالاتصالات  ومميزاتها وبالمعلومات وانفجارها المعرفي الهائل ، وبالتالي سيتأثر كل من يعيش على هذه  الارض مهما بعدت المسافات .


وهذا يعني ان التطور العلمي سيعطي الانسان تصور ورؤية جديدة لطبيعة الحياة والكون وأشياء اخرى تنسجم مع التقدم والتطور المشار اليه  ، وبذلك سيحدث تفاهم وتقارب في معرفة القيم الاجتماعية بما فيها السلوك الانساني وستكون الفلسفة تبعاً لذلك عابرة للحدود معبرة عن عالمية الانسان  .
تعارض الفلسفات
عندما قلنا سابقاً ان الفلسفة الحالية اساسها عصر المعلومات  لا يعني ان هذه الفلسفة درست المجتمع الانساني بأساليب دقيقة جداً واعتمدت على قوانين الطبيعة كما اشار اليها ( اوجست كونت وكارل ماركس ) فالأول  دعا الى دراسة الواقع كما هو وليس للأخر الحق في تغيره ، وهذا يتعارض بطبيعة الحال مع مفهوم الفلسفة  التي وجدت من اجل الانسان وفهم عالمه والتخطيط لمستقبله لذلك هو يركز على الوضع الراهن ولا يتجاوز المستقبل  ، في حين اشار الثاني ( ماركس ) في كتابه بؤس الفلسفة الى ان الشعوب والأمم ترتقي بالعلم والتكنولوجيا حصراً وهو بذلك حارب الفلسفة حتى وصفها بالغيبيات لأنها لا تتجاوب اصلاً مع واقع الانسان بعد ظهور العلم التجريبي .


وبرزت في اوروبا وأمريكا ابداعات  فلسفية جديدة لم تشكل نسقاً لفيلسوف واحد وإنما كانت افكار فلسفية جديدة  مستمدة من طبيعة العصر الجديد عصر العلم والمعرفة فبرزت اسماء مثل  ( الفن توفلر ، هربريت ماركيز  ، وفرانسيس فوكوياما ) .


اما عربياً فقد ظل العقل  ينظر للفلسفة نظرة كلاسيكية خارج عصرها والسبب في ذلك يعود الى الظروف العصيبة التي مرت بها البلاد العربية من تخلف وجهل وأمية وتبعية لا تسمح بظهور فكر فلسفي عربي ، وظهرت هناك بعض الدعوات التي أكدت  بوجود فلسفة عربية اصيلة ولكنها كامنة وعلى وشك الوجود والانبثاق  ومنهم الدكتور حسام الدين الالوسي  الذي اقر بوجود الفلسفة في حالة توفر الشروط اللازمة لها ، وهناك اراء اخرى ومنهم زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي اللذان اكدا بأنها وجودية غربية اعطت لباساً عربياً ، من هنا يمكن القول لا وجود لفلسفة عربية وإنما هناك اتجاهات فلسفية عربية اشتقت من الفكر الغربي .


لقد ان الاوان لولادة فلسفة جديدة تعبر عن روح العصر ، فلسفة ليست كسابقاتها  اساسها العلم والمعرفة والمعلوماتية وكيفية توظيفها في خدمة البشرية بعيداً عن الاهواء والميول السياسية  ، فلسفة تعبر عن روح الانسان وتنمي ذكاءه العقلي وتقضي على اوقات فراغه باستثمار التقدم الالكتروني المتسارع في المجالات كافة  .


نريد فلسفة ذات مسارات  مستقبلية متعددة تجنبنا المخاطر والصدمات وتحذرنا منها  وترسم لنا خطوط المستقبل وفق سيناريوهات يدركها العقل والمنطق ويتعامل معها بكل شفافية بعيداً عن المزاجية لان المستقبل هو جزء من كينونة الانسان الذي يرتكز على الماضي وما به من خيرات توجه ذاته الانسانية وتشكل ملامحها الاساسية ، ويتفاعل معها باستخدام ادوات فكرية جديدة  للوصول الى غايات تمكنه من مواجهة التحديات .


فلسفة العقل
المتعارف علية عند العلماء والمفكرين والباحثين ان الفلسفة لا تتوقف لان عقل الانسان يستمر في التفكير واكتشاف الكون والوجود بأدوات علمية بحثية مستقبلية  فضلاً عن ذلك ان العالم بطبيعته متغير ومتجدد في كل شيء  ، ولكن هناك من يصف العقل العربي تحديداً بأنه عقل يستند على ارث الماضي وهو اما شارح او مفسر للنظريات والفلسفات السابقة ويركن للجانب الديني اكثر من ركونه للتفكير المجرد وهو اما صنيعة سلفه او صنيعة غيره ، لذا فهو حائر بين ارث ماضيه ومطالب حاضره ومستقبله يردد ويقلد الاخر حتى اصبح تابعاً فكرياً وعلمياً وتعليمياً وإعلاميا وتقنياً .. واذا بقي الحال كما هو عليه الان ولم تحدث الصحوة  فان الوضع ينذر بتطور خطير قد يتحول الى صراع مجتمعي مستقبلي  تتصدع فيه القيم والأخلاق والسلوك لذا يتطلب الامر التكيف مع العصر المعلوماتي وتوابعه الرقمية لنتجنب الصدمة المستقبلية التي تتربص بنا .


ان مواكبة عصر المعلومات امر مهم وتوظيفها بالشكل الصحيح غاية في الاهمية بالاستناد الى ارث الماضي وهكذا رأينا كيف اسرعت التقنيات العلمية بضم الكثير من انجازات الماضي للعالم الافتراضي في دنيا المتاحف والمواقع الآثارية والسياحية  بل واحتفظت الذاكرة الافتراضية ايضاً بصناعة اجيال قديمة  من السيارات  والحاسبات والكومبيوترات وأجهزة التلفاز والهاتف والإنسان الالي وغيرها  .


المطلوب في ظل هذا التسارع المعرفي التكيف مع هذه المتغيرات التكنولوجية وتحديد مسار فلسفي جديد ينسجم معها ، مسار توافقي يحافظ على العادات والقيم الاجتماعية قدر الامكان لكي نتجنب الصدمة المستقبلية  ، معبر عن تطلعات الافراد يبتعد عن النزعات الايدولوجية  قدر الامكان ، يرسم نماذج مستقبلية  تتبنى المنهج العلمي الحديث الذي ينتج قيماً وأفكار جديدة تنسجم مع الواقع الذي نعيشه دون تزويق او تحريف  للتخفيف من  الاثار والمخاطر التي تحف بنا ..وفي حالة عدم الاستجابة  للمتغيرات التقنية والعلمية الحديثة  وروافدها وغياب العقل والفكر في تبنيها  معنى ذلك اننا نرفض التطور ونرفض الحضارة الجديدة بكل مفاهيمها وعلومها ونظرياتها وسنعود للوراء اكثر فأكثر لان العالم لا ينتظرنا لكي نلتحق في ركاب تطوره وتقدمه وبالتالي ستزداد الفجوة بيننا وبينهم وسنغرق في بحر ثورة الملومات  والتكنولوجيا وعند ذلك لا تنفع  الحسرة ولا الندم  .


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة