كانت، في الأيام الأخيرة ما قبل الغزو الأميركي للعراق في 2003، فئة من العراقيين، رغم مقتها نظام صدّام حسين، إلا أنها قلقة من الفوضى والمجهول الذي يمكن أن يؤدّي إليه هذا الغزو. في تلك الأيام، كان العراقيون يسابقون الزمن في الشوارع والأسواق، يؤدّي بعضهم ديونه المتأخرة، خشية أن تبقى في رقبته إن حدث له مكروه. يتسوّق آخرون احتياجاتهم من الأسواق، أو ربما يقرّر بعضهم الهرب من بغداد إلى محافظاتٍ مجاورة، لعلمهم أن بغداد ستكون، ولا شكّ، مسرحاً محتدماً للعمليات العسكرية.نجد بين هذه الفئة من الناس التي تخاف من التغييرات الحادّة والمفاجآت من يعيش كفاف يومه، وليست لديه عقارات أو مصالح تجارية يخشى أن تضيع منه بعد الحرب، ولكنه يمكن أن يتنازل عن أشياء كثيرة في حياته، بعضُها أشياء أساسية ربما، في سبيل المحافظة على السلام، والمحافظة على سير يومياته في عالم يعرف حدودَه جيّداً.الأمر مع الحرب في 2003 يمكن أن نكرّره مع كل الحوادث المفصلية السابقة واللاحقة، في العراق أو غيره، حيث لا تجد فئةٌ لها وزنها داخل المجتمع أي دافعيّة للمغامرة، وتنظر إلى التغيير مصدر خطر محتمل.ليست لدينا إحصائيات دقيقة، ولكن يمكن الزعم أن حجم هذه الفئة كبير، توصف أحياناً بأنها "كتلة صامتة"، في الحديث عن الشؤون السياسية، ولا سيما الانتخابات، أو ينظر إليها بعضهم أنها الطرف الذي تخاطبه النخبة السياسية أو الإعلامية من أجل استمالتها وكسب تأييدها، خارج الجمهور المعتاد للتيارات السياسية الذي يرتبط معها بالولاء أو الإيمان الإيديولوجي.يتحمّس معلّقون أو مدوّنون على مواقع التواصل الاجتماعي ليصموا هذه الفئة بأقذع الأوصاف، فيتهمونها بالسلبية، وأن جلوسها على مقاعد المتفرّجين هو السبب في خراب المجتمع، والفشل في إحداث التغيير الإيجابي المطلوب، خصوصاً في الأحداث ذات البعد الأخلاقي الكبير، حيث يصعب خلالها الدفاع عن سلبية هذا الجمهور، ومشاهدته انحدار البلد إلى الأسوأ، وهو سوء يمسّ حياة هذا الجمهور الصامت في نهاية المطاف، ولكنه لا يفعل شيئاً.يتجاهل هذا الموقف الناقد أن "جبن" هذه الفئة من الجمهور العام، كبرت أو صغرت، عميق، يتعلّق بغرائز البقاء، أكثر من كونه موقفاً تجاه ما هو صائبٌ أو خاطئ. وليس له علاقة بظروف مرحلة تاريخية ما، وإنما هو يغوص بعيداً في ذاكرة الجماعات البشرية عبر الزمن. وقد يصحّ القول إن "الجبناء" هم أسلافنا، الذين تنازلوا أحياناً عن كلّ شيء في سبيل استمرار الحياة، على علّاتها. أما الأبطال و"الشجعان" فهم تحوّلوا إلى أنصاف آلهة، وصاروا منارة أخلاقية للمجتمعات، ولكنهم يبقون أقلية صغيرة، وأغلبهم لم يخلّف سلالةً تمتد من بعده.يخطئ من يلوم الشعب العراقي لأنه لم يثُر ضد صدّام ويسقط نظامه، رغم أن ظلمَه بيّن، وتركوا الأمر لأقليةٍ من المغامرين فشلوا في مغامرتهم وقتلوا أو شرّدوا. وكذلك الأمر حين نلوم أهالي المناطق التي غزاها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في شمالي العراق، ولماذا لم يثوروا ضده مثلاً، وظلوا في بيوتهم يتلقون قذائف الأطراف المتقاتلة وصواريخها.لماذا لم يخرج غالبية الناس إلى الشوارع مع تظاهرات تشرين 2019، وظلوا يتفرّجون على مقتل الشباب العزّل بدم بارد على أيدي القوات الأمنية والمليشيات؟ كانت قلوب كثيرين في الحقيقة مع هؤلاء الشباب، ولم يكن لهم موقف مضادّ لمواقفهم، ولكن "غريزة البقاء" تمنعهم من ارتكاب المغامرات.يمتدح كثيرون، هذه الأيام، حالة الأمان في بغداد وغيرها من المحافظات، وتسكّع الصحافيين الأجانب بكلّ حرية، وزيارة الوفود السياحية الأوروبية وغيرها مناطق الأهوار في الجنوب، ورؤية سيارات بأرقام خليجية تتجوّل في شوارع البصرة وبغداد وغيرها بكلّ حرية. ولكنها حالة من الأمان لا علاقة لها بطبيعة الأزمات الراهنة، فهو أمانٌ تدعمه "غريزة البقاء" وميل الناس إلى عدم المواجهة وطلب السلم، وهي لهذا السبب تحديداً ليست جمهوراً حقيقياً يمكن أن تفتخر به الأطراف السياسية في الحكومة الحالية، فهم (هذا الجمهور) سيطلبون الأمان ويحاولون الحفاظ على شؤونهم اليومية، حتى لو جاء التتار. وهو جمهور سيتكيّف بسهولة مع أي واقع قادم يُحدثه الحالمون والمغامرون.
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *