05 Apr
05Apr

مرّ إقدام الفنان والممثل المغربي، أحمد جواد، على إضرام النار في جسده أمام مبنى وزارة الثقافة المغربية في الرباط، مرور الكرام. لم يثر انتباه حتى المارّة الذين كانوا يتابعون الحدث بغير قليل من اللامبالاة والشفقة، ولم يٌحدِث ضجّة كبيرة تهز أركان المجتمع وتكسر صمت القبور الذي يلفّه. ربما فكر الفنان، الذي وافته المنية متأثرا بحروقه، أن فعله سيوقِظ بعض الضمائر من سباتها العميق، وسيحيي النقاش في الساحات العمومية بشأن حقّ المواطن في العيش بكرامة في وطنٍ أصبح فيه المواطنون مجرد دافعي ضرائب وزبناء عند المالكين الحقيقيين للوطن. الحدث جرى في الرباط في 27 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، اليوم العالمي للمسرح، وأمام مرأى المارّة صباح ذات يوم رمضاني، عندما تناقلت وسائط التواصل الاجتماعي الخبر وصور (وفيديو) الفنان وقد شوهت النيران ملامحه والتهمت جزءا من ملابسه، كان ما يزال قادرا على الحركة، ربما من فرط الألم، لكن صوته كان قويا وصادما وهو يدين من دفعوه إلى الاحتجاج ضدّهم بتلك الطريقة التراجيدية.
لا يتعلق الأمر بحالة يأس قصوى بلغها الفنان، جرّاء وضع اقتصادي واجتماعي، تعاني منه شرائح واسعة من المغاربة باتوا يعيشون تحت خط الفقر، وإنما بصرخة احتجاج قويةٍ أراد الفنان، الذي وجد نفسه عاجزا عن القدرة على التعبير عن حالة اليأس الجماعي، أن يترك صداها يتردّد في شارع غاندي، مكان الحرق، وبين أروقة مبنى وزارة الثقافة، التي كان يُفترض فيها أن تنمّي في المجتمع ثقافة الأمل وحب الحياة، لا أن تتحول إلى خشبة مسرح تراجيدي، لكنه واقعي بدرجة قاسية لا تطاق.
"صدّقوني لم أعد أحتمل كل هذا العذاب واعذروني على ما سأقدم عليه في القادم من الأيام" .. كانت هذه وصية الفنان، وآخر ما كتبه على جداره الفيسبوكي قبل أن يسير واثق الخطى نحو مصيره المأساوي، غير آبه بأن يتفحّم جسده النحيل من أجل أن يُشعل جذوة أمل لدى شعبٍ يأبى الخمود رغم كل سياسات الانكسار التي تحاول تطويعه. رسالة جواد، الذي لم يكن قط يبحث عن دور البطولة في حياته بقدر ما كان يبحث عن القليل والإنصاف والاعتراف وعن حياة كريمة له ولأسرته الصغيرة، هي اختياره "الموت البطولي"، على الموت البطيء الذي فُرض عليه وهو في بداية سنوات تقاعده، كآخر تحدٍّ يرفعه في وجه السياسات الحكومية التي أعيته مقاومتها أكثر من أربعة عقود، إنها رسالةٌ صارخةٌ إلى كل المسؤولين في الدولة تعكس أقصى أنواع التحدي لسياسات الظلم و"الحكرة" وعدم الإنصات لمطالب الناس البسطاء، أمثال أحمد جواد.
ليس إحراق الذات للتعبير عن الاحتجاج فعلا جديدا في المغرب، عرفه المغاربة قبل حادث محمد البوعزيزي في تونس، والذي كان بمثابة شرارة "الربيع العربي". وحوادث إحراق الذات المسجّلة في البلاد خلال السنوات الأخيرة، تحولت إلى ظاهرة "عادية" بين فئات المجتمع الهشّة، لم تنجُ منها حتى الأمهات، كما حدث مع حالة الأم مي فتيحة التي أضرمت النار في جسدها احتجاجا على مصادرة الرغيف الذي كانت تبيعه لإعالة أسرتها الصغيرة. وطاولت الظاهرة حتى الأطفال، عندما أقدم تلميذ في إحدى مدارس الرباط على إشعال النار في جسده الصغير احتجاجا على رفض مدرسته متابعته تعليمه. أما حالات الذين يضرمون النار في أجسادهم لشعورهم بالغبن أو "الحكرة"، أو احتجاجا على الظلم وعدم الإنصاف، فقد تحوّلت إلى مجرّد أخبار عادية تطَبَّعَ معها القارئ المغربي إلى درجة لم تعد تثير فيه حتى مشاعر الحزن أو الشفقة على ضحاياها!
هؤلاء ليسوا انتحاريين، أو يائسين، أو فاشلين، لأن قرار إحراق الذات احتجاجا ليس سهلا، وأكثر من ذلك ليس عملا انتحاريا إراديا، بقدر ما هو محاولة تستحثّ كل ذرّات الشجاعة للحفاظ على "كرامة" الذات والاعتزاز بها أمام الإحساس بالعجز وانسداد الأفق. وبعيدا عن أي تمجيدٍ لهذه الظاهرة، التي لا يمكن اعتبارها "فعلا بطوليا"، فهي تُسائلنا جميعا لعدم قدرتنا على حماية من يقدمون عليها على الأقل بالإنصات لهم قبل استسلامهم للموت حرقا!
من جعل من ثقافة الموت فعلا بطوليا ليس هؤلاء الضحايا الذين اختاروا طواعية وإراديا إضرام النار في ذواتهم كأشجع قرار سلوكي للحفاظ على كرامتهم، وإنما الذين قتلوا ثقافة الحياة في المجتمع بسياساتٍ تسلب المواطن يوميا أعزّ ما لديه: كرامته وعزّة نفسه وحبّه الحياة، فهؤلاء كلهم ضحايا الفساد والمحسوبية وتجريف السياسة من كل ما هو نبيل فيها، وسياسات التفقير والتخويف والترهيب حتى يصمت الجميع ليمرّروا المهزلة. لو كان هناك تنديدٌ جماعيٌّ بكل أسباب الظلم و"الحكرة" والفقر والفساد لما أقدم هؤلاء على تقديم ذواتهم قرابين ليستمر الصمت نفسه في عالمٍ أصابه الخرس.
استشهاد الفنان أحمد جواد، وبالطريقة التراجيدية التي اختارها، صرخة إدانة من مثقف شجاع في زمنٍ عزّت فيه الشجاعة، إدانة لمسؤولي البلد بدون استثناء، وفي مقدمهم وزير الثقافة الذي أغلق أبواب وزارته أمام المثقف الذي كان يُعامل مثل بعيرٍ أجرب كلما اقترب من محيطها. وإدانة لصمت المثقفين، وفي مقدمتهم الفنانون الذين احتفوا وراء الستار في انتظار أن تمرّ جنازة زميلهم ليجلسوا إلى خشبة الطعام في سُرادِق العزاء. وإدانة لمجتمع بأكمله طبّع مع ثقافة الانهزام والخوف وهو يهان كل يوم في قوت عيشه وكرامته وحرّيته وسيادته من دون أن يخرج شاهرا غضبه في وجه مغتصبي حقوقه، وذلك أضعف الإيمان.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة