تضعنا الاعتداءات المتكرّرة على أرجاء من الوطن العربي: فلسطين، العراق... إلخ، أمام اختباراتٍ ثقافيةٍ عسيرةٍ ومعقّدة في الوقت نفسه. يتدحرج الرأي العام في العالم العربي عموما إلى ما يشبه شوفينيّة متعصّبة تذهب في شططها إلى إلغاء الآخر، واعتبار الجميع متآمرين علينا، وفي مقدّمتهم الغرب. في مثل هذه الأحداث الصعبة والمؤلمة، ينضمّ فريقٌ هام من المثقفين، وحتى المناضلين الحقوقيين، إلى هذا المخيّم الكبير من الرافضين كل مآثر الغرب ومكتسباته. تبدأ استعادة الثنائية في حدّتها: نحن، العرب والمسلمين، مقابل هم الغرب الظالم. طبعا، لا يمكن تماما أن ندّعي أن هذه الصورة خاطئة أو متحاملة، وهي التي لها مبرّرات عديدة، خصوصا في ظل ما غدا يشبه المنوال الفكري الجاهز للتشغيل بالمثل نفسها والآليات نفسها: العرب أمّة خارج التاريخ: عنيفون، لاعقلانيون، ميّالون إلى التعصّب، وهي أطروحة رسم صورها غلاة الفكر الاستشراقي.يجرى باستمرار تجديد هذه الأطروحات الحادّة إلى حد الصلف، خصوصا في ظلّ النموّ الهائل للإعلام والميديا الجديدة، حتى تجعل من مناصرة الكيان الصهيوني انتصارا للديمقراطية، ومناهضة للاستبداد العربي الشرقي.أفلحت الصهيونية في ابتزاز الغرب على ما اقترفه من جرائم في حقّ يهود العالم ما بين الحربين، ولكن سيبدو أن الغرب ذاته لا يخلو، في كل مواقفه من القضايا العربية، من نفاق. إنه، وهو يكفّر عن ذنبه، يرتكب أبشع مما ارتكب في حقّ اليهود. إنه يعمد إلى غضّ الطرف عن إبادة شعبٍ آخر لا علاقة له بالمحرقة، ولم يشارك في المآسي التي حلّت به. التكفير عن هذا الذنب منح حصانة كاملة للعدو الصهيوني حتى يبيد شعبا بأكمله. وتظلّ الحجّة التي يستند اليها الغرب في دعمه إسرائيل واهية، ولا تستقيم، لذلك لا يفهم العرب أسسها ومنطقها، خصوصا أن أجيالا كاملة لم تعش الحرب العالمية الثانية، وهي متخفّفة من كل أثقالها.
تختلف شبكة التحليل التي يقرأ العرب، على ضوئها، هذا الانحياز الأعمى لإسرائيل، عن شبكات الغرب ذاته التي لا تخلو من ذلك "النفاق". يتعلم هؤلاء الشباب في مدارسه وفي أحزابه وجمعياته أهمية حقوق الإنسان والتسامح وحقّ الاختلاف وكل القيم الكونية التي أصبحت وصفة جاهزة "للحداثة والمواطنة"، غير أنه سرعان ما تشتدّ حيرته، حين يرى أن هذا الغرب، الذي ابتكر منظومة حقوق الإنسان تلك، يبيح الاعتداء على الحدّ الأدنى منها كلما تعلق الأمر ببلدان عربية، فها هو لا يحرّك ساكنا حين يكون هذا الإنسان فلسطينيا تحديدا، بل إنه يزكّي إبادته. كيف يمكن أن نفهم مواقف فرنسا مما يحدُث في غزّة، وهي البلد الذي صدر فيها سنة 1798 إعلان حقوق الإنسان والمواطن.
هذه المواقف التي تخذل العرب في قضاياهم العادلة، وهذا الضمير العالمي الذي يكيل بمكياليْن، ستغذّي مشاعر الضغينة لدى الأجيال القادمة. ربما تحسم المعارك لفائدة الخصم، ولكن لا شيء يفيد بأن المعركة انتهت. سيورث الغرب المنحاز بشكل أعمى إلى العدو الصهيوني مشاعر المظلومية، وستظلّ شعوب المنطقة تعيش على وقع هذا العنف المعمّم. ولا يفهم الغرب أن آثارا وخيمة ستكون لحشر العرب في دائرة "الحيوانات البشرية"، كما ذكر وزير دفاع الكيان الصهيوني، ستكون على الوعي والبنى الذهنية التي سيُعاد إنتاجها خلال أجيال وأجيال.
لم تعد الحربُ حكايةً تُروى، بل غدت مشهدا مهيبا نحياه ونشاهده في أدقّ تفاصيله: آلاف الشيوخ الأطفال يموتون وتمزّق أجسادهم، آلاف المنازل تهدم على رؤوس ساكنيها، آلاف القنابل تلقى ولا يهتز ضمير العالم. هذا الضمير الذي يهتز ويغضب حين يُصاب إسرائيلي... لا يمكن مطلقا أن يفهم العربي لماذا كل هذا التنكيل بالفلسطيني بمباركة غربية.حتى ونحن نريد أن نكون في قمّة الاعتدال باحثين عن تسوياتٍ غير منصفة ينكل بالعرب أيضا. كل القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة ظلّت حبرا على ورق. لا يثق العرب بهذه الهيئات الأممية، ويرون فيها تنازلا غير مبرّر، يتم على حساب حقوقهم التاريخية.لماذا يكرهوننا؟ طرح هذا السؤال ذات يوم الرئيس الأميركي جورج بوش. ربما كان صادقا في طرحه غير متصنّع، بحكم ما ترسّب من '"بديهياتٍ وسردياتٍ مضلّلة". ولكنه لن يصدّق لو يستمع إلى أحد أطفال غزّة حين يفيده بكل بساطة: نكرهكم، لأنكم لم تُنصفوننا مطلقا في كل المظالم التي سحقتنا. في مثل هذه المناخات التي تخيّم علينا، والمتّسمة بمرارة الخذلان وطعم التطبيع الذي يقتل الفلسطينيين مرّتين، لا يمكن تماما أن نتنكر، كما يفعل بعضهم، لقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إنها، وإن كانت ابتكار الغرب، ميراثٌ إنساني، علينا أن نرسّخه عميقا، ونحرص على أن ننهي كل أشكال التلاعب به.