عندما منح برلمان اقليم كردستان حكومة السيد مسرور البارزاني الثقة في تموز 2019 ارتكزت الرؤية والمنهاج الحكوميين على اصلاح الداخل عبر خفض الديون التي ورثت من المرحلة السابقة وتعزيز التنوع الاقتصادي وتسهيل الحركة التجارية عبر قوانين فاعلة، وتعزيز الشفافية والحكم الرشيد ومكافحة الفساد، واحتواء الخارج عبر الشراكة الراسخة مع بغداد والتعاون العسكري والامني.
هذه الرؤية كانت في ذلك الوقت ضمن امكانات الاقليم ككيان دستوري والحكومة كفاعل سياسي، إلا ان مسيرة الأربع سنوات كشفت عن تحديات كبرى ستواجه حكومة الاقليم وتحقق فيها مكاسب، هذه التحديات التي فاقت من حيث تبعاتها على الاقليم والاطراف المتعددة فيها حدود الامكانيات التي منحت للحكومة، إلا أنه على الرغم من ذلك حافظت حكومة اقليم كردستان على الكيان الدستوري وألزمت القوى السياسية العراقية على انهاء المساحات الرمادية بين صلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كردستان.
فبدءاً بتداعيات الأوضاع المربكة في بغداد اواخر عام 2019 مروراً بتشكيل حكومة جديدة عام 2020 وصولاً للأنتخابات المبكرة عام 2021 والازمة السياسية الاكبر التي شهدها العراق، خلقت حكومة اقليم كردستان هامش واسع للمناورة مع اطراف مارست الضغوطات الاقوى على حساب مصالح الاقليم مكنّها من تجاوز تحديات على مستوى الأمن القومي لأقليم كردستان، ودفع خصوم الداخل والخارج للجوء الى ادوات غير متكافئة للتغلب على الارادة الصلبة للقيادة الكردستانية.
الاستجابة للتحولات السياسية في بغداد.
مثّل التحول السياسي والاجتماعي في بغداد اواخر عام 2019 مدخلاً جديداً لم تألفه العملية السياسية التي تشكّلت بعد عام 2003، فالاحتجاجات الشعبية تمكّنت من اسقاط حكومة السيد عادل عبد المهدي في غضون 40 يوماً وكان على جميع القوى السياسية ابداء موقفها الواضح من هذا التحوّل الكبير الذي سينعكس بالضرورة على استقرار العملية السياسية، وكان لحكومة اقليم كردستان موقفاً واضحاً تأسس على التمسّك بالدستور واحترام الحقوق والحريات الأساسية للشعب العراقي التي كانت ولا تزال جزء من حركة النضال التاريخي لشعب اقليم كردستان.
وعلى الرغم مما ترتب على هذا الموقف السياسي من خصومة مع بعض الاطراف السياسية في الحكومة المركزية، إلا أنه كان عاملاً مهماً في تحقيق الشراكة الراسخة فيما بعد عند تشكيل حكومة السيد مصطفى الكاظمي في آيار 2020، فقد كان للتعاون مع الحكومة في بغداد أثراً مهماً في تحقيق المنهاج الوزاري لحكومة السيد مسرور بارزاني عبر وصول استحقاقات الاقليم بشكل منتظم والاستقرار في تنفيذ السياسة العامة في الاقليم، وكان من بين المهام الأبرز التي تحققت في تلك المرحلة اتفاق سنجار في تشرين الاول 2020 الذي قضى بإخراج المجاميع المسلحة من القضاء وتشكيل قوات محلية تكفل عودة النازحين واعادة الاعمار والاستقرار، وعلى الرغم من تعطيل تنفيذ هذا الاتفاق إلا أنه يحظى برعاية ودعم أمميين من بعثة يونامي من جهة، وبإنتظار تنفيذ جميع فقراته من جهة أخرى وفقاً للتعهدات الحكومية.
حماية الأمن القومي لأقليم كردستان.
لم يمض على استقرار العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كردستان وقت طويل حتى شهدت البلاد عقد الانتخابات المبكرة في تشرين الاول 2021 والتي جاءت بنتائج مختلفة كلياً عن كل الانتخابات الأربع الماضية بفعل التحولات السياسية من جهة وقانون الانتخابات الذي طبق للمرة الاولى.
ومع تغيّر الخارطة النيابية والسياسية واختيار الحزب الديمقراطي الكردستاني التحالف مع القوى الفائزة الممثلة بالكتلة الصدرية وتحالف السيادة، تعرّض الأمن القومي لأقليم كردستان لتحديات هي الاولى من نوعها منذ زوال خطر تنظيم داعش الارهابي، فقد نفذت مجاميع مسلحة خارجة عن القانون مدعومة بغطاء سياسي عمليات قصف بصواريخ كاتيوشا وطائرات مسيرة لعشرات المرات ضد أهداف داخل اقليم كردستان او مصالح الاقليم في المحافظات الاتحادية، وكانت هذه الهجمات بدافع سياسي من أجل الضغط على قرار القيادة في اقليم كردستان وحرية خياراتها السياسية في تشكيل الحكومة الجديدة في بغداد.
لم يقف التهديد عند حد المجاميع الخارجة عن القانون، انما تعرّضت مواقع مدنية في العاصمة اربيل لعدوان بصواريخ بالستية من قبل الحرس الثوري الايراني في شباط 2022 ولحق ذلك سلسلة من عمليات القصف على مواقع حدودية ضمن السيادة الوطنية للبلاد.
مثّلت هذه العمليات العدوانية تهديداً نوعياً للأمن القومي لأقليم كردستان كان الغرض منه -بالاضافة لخيارات اربيل السياسية في بغداد- منع استثمار موارد الطاقة في الاقليم وثني الارادة السياسية عبر استدراج حكومة الاقليم لمواجهة عسكرية غير محسوبة النتائج.
واجهت حكومة الاقليم هذه التحديات بموقف صارم وشجاع ورافض لكل الاعمال العدوانية، وفي الوقت ذاته أدارت الحكومة هذه التحديات من خلال العمليات الاستخبارية والأمنية الفعالة التي كشفت في مناسبات عديدة وبالادلة القاطعة الاطراف المتورطة بتهديد أمن الاقليم وطالبت بغداد بأتخاذ الاجراءات القانونية بحق هذه الاطراف كونها أطراف تحظى بالنشاط في المحافظات الاتحادية.
هذه الادارة السياسية وعلى الرغم من ممارسة اقصى الضغوطات إلا أنها ساعدت في امتلاك اقليم كردستان مفتاح الحل السياسي لأزمة استمرت على مدى عام، وكان من أبرز مخرجاتها تشكيل تحالف ادارة الدولة وإلزام اطرافه السياسية بالاقرار بالحقوق الدستورية والسياسية والقانونية لأقليم كردستان والتعهد بتنفيذها بعد ان تشكلت حكومة السيد محمد شياع السوداني في تشرين الأول 2022.
إلا أن القضايا الأبرز التي لا تزال بحاجة الى معالجة فعالة هو تحويل الاتفاقيات السياسية الى قوانين ملزمة لجميع الأطراف، ومن أبرز هذه القوانين قانون النفط والغاز وقانون المحكمة الاتحادية العليا وقانون مجلس الاتحاد، تلك القوانين التي تعهدت الحكومة الاتحادية بإقرارها خلال ستة أشهر من تاريخ منحها الثقة إلا أنها لم تقدم حتى الآن رغم تجاوز المدة المحددة، وهذا ما يكفل تعزيز الاستقرار الدائم في العلاقة الفيدرالية بين اقليم كردستان والحكومة الاتحادية.
* أستاذ العلاقات الدولية
* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *