03 Nov
03Nov

صادف‭ ‬ان‭ ‬التقى‭ ‬شخصان‭ ‬على‭ ‬قارعة‭ ‬طريق‭. ‬أحدهما‭ ‬يبدو‭ ‬عليه‭ ‬الاحتيال‭ ‬ولا‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬عينيه‭ ‬ما‭ ‬يدلل‭ ‬على‭ ‬الخنوع‭ ‬والذلة،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬على‭ ‬الآخر‭.‬
الأول‭ ‬كان‭ ‬حرامياً،‭ ‬وهو‭ ‬قد‭ ‬تعود‭ ‬على‭ ‬السرقة‭ ‬متحملاً‭ ‬مطباتها‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قضى‭ ‬فترات‭ ‬متعددة‭ ‬ومختلفة‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬واحياناً‭ ‬الى‭ ‬ضرب‭ ‬وتوبيخ‭.‬
أما‭ ‬الثاني‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تعود‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الشحاذة‭ ‬ومنذ‭ ‬صغره‭ ‬حينما‭ ‬كانت‭ ‬تدفعه‭ ‬أمه‭ ‬الى‭ ‬الذهاب‭ ‬الى‭ ‬حيث‭ ‬يتجمع‭ ‬الناس‭ ‬ويسألهم‭ ‬العون‭ ‬بحجة‭ ‬أن‭ ‬أمه‭ ‬مريضة‭ ‬وهي‭ ‬تحتاج‭ ‬الى‭ ‬دواء‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬الأسرة‭ ‬ثمنه‭. ‬هكذا‭ ‬بدأت‭ ‬الشحاذة‭ ‬ثم‭ ‬تطورت‭ ‬عنده‭ ‬مهارات‭ ‬استعطاف‭ ‬الناس‭ ‬وكسب‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬فأصبحت‭ ‬مهنة‭ ‬له‭.‬
في‭ ‬لقائمها‭ ‬الصدفة‭ ‬وتعارفهما،‭ ‬وحتى‭ ‬تحاببهما،‭ ‬سأل‭ ‬الحرامي‭ ‬الشحاذ‭ ‬عن‭ ‬حاله‭ ‬وماذا‭ ‬يعمل‭ ‬لكسب‭ ‬عيشه،‭ ‬فأجابه‭ ‬الشحاذ‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تردد‭ ‬أو‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الخجل‭: ‬أنا‭ ‬أعيش‭ ‬على‭ ‬الشحاذة‭! ‬استغرب‭ ‬الحرامي‭ ‬للحظات،‭ ‬فقال‭: ‬على‭ ‬الشحاذة؟‭ ‬أجابه‭ ‬الشحاذ‭: ‬نعم‭ ‬على‭ ‬الشحاذة‭. ‬ولما‭ ‬الاستغراب؟‭ ‬عاد‭ ‬الحرامي‭ ‬ليسأله‭ ‬ثانية‭: ‬ولكنها‭ ‬طريق‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬ما‭ ‬أقول،‭ ‬ليس‭ ‬باللائق‭ ‬لرجل‭ ‬شهم‭ ‬مثلما‭ ‬أقدر؟‭ ‬أجابه‭ ‬الشحاذ‭: ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬بأن‭ ‬الشحاذة‭ ‬تتطلب‭ ‬الذلة‭ ‬والمسكنة‭ ‬وسؤال‭ ‬الناس‭ ‬واستعطافهم‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الكذب‭ ‬والاحتيال‭. ‬والله‭ ‬ما‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬قولها،‭ ‬بالضبط،‭ ‬أجابه‭ ‬الحرامي‭.‬
ولكن‭ ‬قل‭ ‬لي،‭ ‬يسأل‭ ‬الشحاذ‭: ‬وكيف‭ ‬تكسب‭ ‬انت‭ ‬قوت‭ ‬يومك‭ ‬وكيف‭ ‬تعيش؟
يجيب‭ ‬الحرامي‭ ‬بكل‭ ‬شجاعة‭ ‬وثقة‭ ‬بالنفس‭: ‬أنا‭ ‬حرامي،‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تظن‭. ‬فأنا‭ ‬لا‭ ‬أسرق‭ ‬الفقراء‭ ‬ولا‭ ‬أستغفل‭ ‬كبار‭ ‬السن‭ ‬ولا‭ ‬أخطف‭ ‬محافظ‭ ‬نقود‭ ‬المارة‭! ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أسرق‭ ‬الا‭ ‬من‭ ‬السراق‭ ‬الكبار،‭ ‬سراق‭ ‬الوطن‭!‬
سراق‭ ‬الوطن؟‭ ‬يسأله‭ ‬الشحاذ‭ ‬بتعجب‭. ‬ألست‭ ‬سارقاً‭ ‬وبالتالي‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬سراق‭ ‬الوطن؟
على‭ ‬مهلك‭ ‬أخي‭ ‬الشحاذ‭! ‬هل‭ ‬سمعت‭ ‬بحكاية‭ “‬روبن‭ ‬هود‭” ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يسطو‭ ‬على‭ ‬قوافل‭ ‬النبلاء‭ ‬في‭ ‬الغابات‭ ‬ويسطو‭ ‬على‭ ‬مجوهراتهم‭ ‬ويوزعها‭ ‬على‭ ‬الفقراء‭ ‬المضطهدين‭ ‬والمنهوبين‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يكسبونه؟
ولكن،‭ ‬يعود‭ ‬الشحاذ‭ ‬لسؤاله‭: ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬وجود‭ ‬لأولئك‭ ‬النبلاء‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬حاجة‭ ‬لروبن‭ ‬هود،‭ ‬أليس‭ ‬كذلك؟
الحرامي‭: ‬انهم‭ ‬اليوم‭ ‬موجودين‭ ‬بأسماء‭ ‬أخرى،‭ ‬وهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬النبلاء‭ ‬عدداً‭ ‬وأشد‭ ‬منهم‭ ‬نهباً‭ ‬لثروات‭ ‬الناس‭. ‬انهم‭ ‬ساستنا‭ ‬ورجال‭ ‬ديننا‭ ‬ونوابنا‭ ‬في‭ ‬البرلمانات‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬عهد‭ ‬لهم‭ ‬ولا‭ ‬ذمة‭. ‬الشحاذ،‭ ‬ولكن‭ ‬قل‭ ‬لي‭: ‬كيف‭ ‬تسرقهم؟
يجيب‭ ‬الحرامي‭: ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬صعبة‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭ ‬في‭ ‬فهمك‭ ‬لأساليبها‭!‬
أصل‭ ‬اليهم‭ ‬والى‭ ‬أبنائهم‭ ‬وأسرقهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حكايات‭ ‬الليل‭ ‬والمجون‭ ‬في‭ ‬خمرة‭ ‬وحشيش‭ ‬ونساء‭ ‬وصفقات‭ ‬عقارات‭ ‬ومناصب‭ ‬وهمية‭ ‬وعقود‭ ‬يسيل‭ ‬لها‭ ‬اللعاب‭.‬
الشحاذ‭: ‬وماذا‭ ‬لو‭ ‬اكتشفوا‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬به،‭ ‬وهم‭ ‬الساسة‭ ‬والوعاظ‭ ‬والنواب؟
الحرامي‭: ‬لكل‭ ‬مهنة‭ ‬مخاطرها،‭ ‬لكني‭ ‬أتجرأ‭ ‬على‭ ‬ممارستها‭ ‬لأني‭ ‬أعمل‭ ‬على‭ ‬مساعدة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المحتاجين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ايراداتها‭. ‬ألم‭ ‬تسمع‭ ‬بمجمع‭ ‬المتعففين‭ ‬السكني‭ ‬وبمستشفى‭ ‬المدينة‭ ‬الخيري‭ ‬وبمدارس‭ ‬الأيتام‭ ‬والمعوقين؟
الشحاذ‭: ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬تعيش‭ ‬أنت،‭ ‬طالما‭ ‬انك‭ ‬بهذه‭ ‬الفروسية‭ ‬والعفة؟
الحرامي‭: ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أكذب‭ ‬عليك،‭ ‬أنا‭ ‬أعيش‭ ‬كعامل‭ ‬نظافة‭ ‬في‭ ‬بلدية‭ ‬المدينة‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬النهار،‭ ‬وبعدها‭ ‬أمارس‭ ‬مهنة‭ ‬السرقة‭ ‬على‭ ‬طريقتي‭ ‬الخاصة‭ ‬بعدها‭!‬
الشحاذ،‭ ‬ينكس‭ ‬برأسه‭ ‬ويعود‭ ‬متأملاً‭ ‬ما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬خنوع‭ ‬ووضاعة‭ ‬وهو‭ ‬يكسب‭ ‬نقوده‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬البسطاء‭ ‬الذين‭ ‬يخرجون‭ ‬من‭ ‬مساجد‭ ‬الصلاة‭ ‬وممن‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يحتال‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حكاية‭ ‬كاذبة‭ ‬أو‭ ‬شدة‭ ‬ساق‭ ‬مكسورة‭ ‬أو‭ ‬حدبة‭ ‬ظهر‭!‬


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة