12 Jun
12Jun

كان‭ ‬لدي‭ ‬صديق‭ ‬ورفيق‭ ‬سلاح‭ ‬من‭ ‬سكنة‭ ‬الموصل،‭ ‬ومن‭ ‬طبيعة‭ ‬جُند‭ ‬المشاة‭ ‬أن‭ ‬يتقاربوا‭ ‬كثيرا‭ ‬مع‭ ‬أبناء‭ ‬منطقتهم‭ ‬لاعتبارات‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬لسردها،‭ ‬ولكن‭ ‬أهم‭ ‬عامل‭ ‬للتقارب‭ ‬هو‭ ‬طمأنة‭ ‬أسر‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭ ‬الاخر‭ ‬عند‭ ‬الذهاب‭ ‬بالإجازات‭ ‬الدورية‭.‬
‭ ‬وكان‭ ‬صاحبي‭ ‬متزوجا‭ ‬ولديه‭ ‬طفلة‭ ‬حفظت‭ ‬ملامحها‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬حديثه‭ ‬عنها‭ ‬ومشاهدتي‭ ‬لصورها‭ ‬التي‭ ‬يحتفظ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬محفظته،‭ ‬وكان‭ ‬المسكين‭ ‬لا‭ ‬يمل‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬عنها‭ ‬وشدة‭ ‬تعلقه‭ ‬بها،‭ ‬وكان‭ ‬قلقا‭ ‬عليها‭ ‬كثيرا في‭ ‬حالة‭ ‬استشهاده‭.‬
وكان‭ ‬يردد‭ ‬دائما‭ ‬عند‭ ‬استشهاد‭ ‬أحد‭ ‬جنودنا‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬الله‭ ‬يكون‭ ‬بعون‭ ‬أطفاله‮»‬،‭ ‬كنت‭ ‬اقول‭ ‬له‭: ‬ويكون‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عون‭ ‬أمه‭ ‬وأبيه‭ ‬ومحبيه،‭ ‬فكان‭ ‬يعترض‭ ‬بامتعاض‭ ‬مرددا‭: ‬لا،‭ ‬فالأم‭ ‬والاب‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يرعاهما،‭ ‬أما‭ ‬الأطفال‭ ‬فمصيرهم‭ ‬مجهول‭.‬
‭ ‬وكأنّ‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬الذي‭ ‬يختلج‭ ‬في‭ ‬صدره‭ ‬هو‭ ‬انذار‭ ‬مكتوم‭ ‬لما‭ ‬سيحصل‭ ‬لأبنته‭ ‬المسكينة،‭ ‬فقد‭ ‬استشهد‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬قصف‭ ‬مدفعي‭ ‬في‭ ‬قاطع‭ ‬الفاو،‭ ‬وبقت‭ ‬ارهاصات‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬مصير‭ ‬ابنته‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬مخيلتي‭ ‬وتضغط‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬بشدة،‭ ‬ولما‭ ‬كنت‭ ‬اعرف‭ ‬محل‭ ‬سكناه‭ ‬قادتني‭ ‬قدماي‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬اجازاتي‭ ‬الدورية‭ ‬لبيته،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬اذهب‭ ‬الى‭ ‬هناك‭ ‬كنت‭ ‬ارى‭ ‬ابنته‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬جدتها،‭ ‬امّا‭ ‬جدها‭ ‬فقد‭ ‬تزوج‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬ثانية‭ ‬بالمال‭ ‬الذي‭ ‬آل‭ ‬اليه‭ ‬من‭ ‬استشهاد‭ ‬ولده‭.‬
‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬عيني‭ ‬الطفلة‭ ‬المتعبتين‭ ‬تتفرسان‭ ‬في‭ ‬وجهي،‭ ‬وكأنها‭ ‬تسألني‭ ‬متى‭ ‬يأتي‭ ‬أبي؟
‭ ‬اخرج‭ ‬من‭ ‬دارهم‭ ‬قاطعا‭ ‬عهدا‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬ألا‭ ‬أعود‭ ‬لزيارتهم،‭ ‬وخصوصا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬علمت‭ ‬أن‭ ‬امها‭ ‬قد‭ ‬تركتها‭ ‬وتزوجت‭. ‬لم‭ ‬تمض‭ ‬شهور‭ ‬حتى‭ ‬ماتت‭ ‬جدتها‭ ‬وانتقلت‭ ‬الطفلة‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬خالها‭ ‬الذي‭ ‬كفلها‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬راتب‭ ‬الشهيد‭.‬
‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬التقيت‭ ‬خالها‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬زياراتي،‭ ‬وخرجنا‭ ‬سوية‭ ‬ودلني‭ ‬على‭ ‬داره‭ ‬عندما‭ ‬استأجرت‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬وأوصلته‭ ‬في‭ ‬طريقي،‭ ‬وقد‭ ‬صدع‭ ‬رأسي‭ ‬بشكواه‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬فقره‭ ‬الشديدة‭ ‬وكثرة‭ ‬عياله‭ ‬ومشاكل‭ ‬زوجته‭ ‬وسيطرتها‭ ‬عليه‭.‬
‭ ‬وهنا‭ ‬الطامة‭ ‬الكبرى‭ ‬إذ‭ ‬ذهبت‭ ‬الطفلة‭ ‬لتعيش‭ ‬وتخدم‭ ‬أسرة‭ ‬الخال‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬زوجة‭ ‬خالها‭ ‬المتغطرسة‭.‬
بعد‭ ‬سنوات‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬تخطيط‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬محلة‭ ‬سكن‭ ‬الخال،‭ ‬وقررت‭ ‬أن‭ ‬أزوره‭ ‬لأرى‭ ‬حال‭ ‬الطفلة،‭ ‬وصعقت‭ ‬لما‭ ‬رأيتها‭ ‬عند‭ ‬دكان‭ ‬المحلة‭ ‬تشتري‭ ‬حاجات‭ ‬طلبتها‭ ‬زوجة‭ ‬الخال،‭ ‬والبنت‭ ‬قد‭ ‬كبرت‭ ‬قليلا‭ ‬ولها‭ ‬جديلة‭ ‬وقد‭ ‬تحلق‭ ‬حولها‭ ‬شلة‭ ‬من‭ ‬الصبيان‭ ‬المراهقين‭ ‬يتلمسون‭ ‬جسدها‭ ‬وهي‭ ‬تدفعهم‭.‬
‭ ‬لم‭ ‬الاحظ‭ ‬نفسي‭ ‬إلا‭ ‬وانا‭ ‬قد‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬وبدون‭ ‬وعي‭ ‬مني،‭ ‬وقد‭ ‬اوجعت‭ ‬الصبيان‭ ‬ضرباً‭ ‬وركلاً‭ ‬مبرحاً،‭ ‬حتى‭ ‬صاح‭ ‬أحدهم‭ ‬وهو‭ ‬يهرب‭ ‬متكئا‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬ساقيه‭ ‬قاذفا‭ ‬بالسباب‭ ‬والشتائم‭ ‬المقذعة‭ ‬صارخا‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭ ‬بأنه‭ ‬قد‭ ‬شاهدها‭ ‬مع‭ ‬فلان‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬غير‭ ‬أخلاقي،‭ ‬انطبقت‭ ‬السماء‭ ‬على‭ ‬رأسي‭ ‬وانهمرت‭ ‬دموعي‭ ‬وانحبست‭ ‬أنفاسي‭ ‬كأنه‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬لاستشهاد‭ ‬صاحبي‭ ‬والد‭ ‬الفتاة،‭ ‬اخذت‭ ‬بيدها‭ ‬وذهبت‭ ‬لمنزل‭ ‬خالها،‭ ‬واشبعته‭ ‬كلاما‭ ‬قاسيا‭ ‬حتى‭ ‬خرجت‭ ‬زوجته‭ ‬اللعينة‭ ‬قائلة‭ (‬إذا‭ ‬كلبك‭ ‬محترك‭ ‬عليها‭ ‬خذها‭ ‬ربيها‭ ‬انت‭) ‬أسقطَ‭ ‬بيدي‭ ‬وأنا‭ ‬لاحول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬لي،‭ ‬إذ‭ ‬كنت‭ ‬عازبا‭ ‬في‭ ‬حينها‭. ‬خرجت‭ ‬مطأطأ‭ ‬الرأس،‭ ‬وكأن‭ ‬جبلا‭ ‬سقط‭ ‬عليّ‭.‬
‭ ‬مرت‭ ‬السنوات‭ ‬وكنت‭ ‬لم‭ ‬ازل‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬حرب‭ ‬الثمانينات،‭ ‬بدأت‭ ‬اترصد‭ ‬أخبار‭ ‬المسكينة‭ ‬لقد‭ ‬زوّجوها‭ ‬وهي‭ ‬طفلة‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬سبعيني‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يمارس‭ ‬معها‭ ‬العلاقة‭ ‬الشرعية‭ ‬لضعف‭ ‬في‭ ‬جسده‭ ‬وكان‭ ‬يضربها‭ ‬ضربا‭ ‬مبرحا‭ ‬بحجة‭ ‬أن‭ ‬الطفلة‭ ‬مقترنة‭ ‬بجني‭ ‬يمنع‭ ‬الشيخ‭ ‬العجوز‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬العلاقة‭ ‬معها،‭ ‬ويرفض‭ ‬أن‭ ‬يطلقها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬استرجاع‭ ‬نقوده‭ ‬التي‭ ‬دفعها‭ ‬مهرا‭ ‬لزوجة‭ ‬الخال‭. ‬لم‭ ‬انم‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬الإرهاق‭ ‬رأيت‭ ‬نفسي‭ ‬واقفا‭ ‬فوق‭ ‬جبل‭ ‬أصدر‭ ‬صوتا‭ ‬اوهمتني‭ ‬نفسي‭ ‬أنه‭ ‬صوت‭ ‬الله،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬بتلعثم‭: ‬لماذا‭ ‬يا‭ ‬ربي‭ ‬الا‭ ‬ترى‭ ‬الظلم‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬عبادك؟‭ ‬أجابني‭ ‬الصوت‭ ‬بحنو‭ ‬بالغ،‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬رأيته‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬هو‭ ‬شيء‭ ‬يسير‭ ‬بل‭ ‬أني‭ ‬أرى‭ ‬ظلما‭ ‬أشد‭ ‬منه‭ ‬بكثير‮ ‬،ولكن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الظلم‭ ‬يرسخ‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬البشر‭ ‬وعند‭ ‬قدومهم‭ ‬إلي‭ ‬امسح‭ ‬كل‭ ‬ظلاماتهم‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬فتصبح‭ ‬هباءا‮ ‬،ثم‭ ‬اغمرهم‭ ‬بالفرح‭ ‬والسعادة‭ ‬الأبدية‭ ‬وأسألهم‭ ‬هل‭ ‬رأيتم‭ ‬ظلما‭ ‬قط‭ ‬يأتي‭ ‬الجواب‭ ‬وعزتك‭ ‬وجلالك‭ ‬لم‭ ‬نر‭ ‬قط‭ ‬ظلما،‭ ‬أن‭ ‬دنياكم‭ ‬ومضة‭ ‬عابرة‭ ‬لاهية،‭ ‬وأنّ‭ ‬للصابرين‭ ‬على‭ ‬البلاء‭ ‬يوفّون‭ ‬أجورهم‭ ‬بغير‭ ‬حساب،‭ ‬امّا‭ ‬الظلَمة‭ ‬فخالدون‭ ‬في‭ ‬نار‭ ‬جهنم‭ ‬مع‭ ‬ظلمهم‭ ‬الذي‭ ‬اقترفوه،‭ ‬نزلت،‭ ‬في‭ ‬الحلم،‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬الجبل‭ ‬خجلا‭ ‬من‭ ‬قصور‭ ‬تفكيري،‭ ‬ولحقني‭ ‬الصوت‭ ‬ذاته‭: ‬ولك‭ ‬من‭ ‬الثواب‭ ‬نصيب‭ ‬لأنك‭ ‬أوشكت‭ ‬أن‭ ‬تذهب‭ ‬بروحك‭ ‬حزناً‭ ‬وكمداً‭ ‬على‭ ‬المُعذبين‭.‬


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة