كان لدي صديق ورفيق سلاح من سكنة الموصل، ومن طبيعة جُند المشاة أن يتقاربوا كثيرا مع أبناء منطقتهم لاعتبارات كثيرة لا مجال لسردها، ولكن أهم عامل للتقارب هو طمأنة أسر بعضنا البعض الاخر عند الذهاب بالإجازات الدورية.
وكان صاحبي متزوجا ولديه طفلة حفظت ملامحها من كثرة حديثه عنها ومشاهدتي لصورها التي يحتفظ بها في محفظته، وكان المسكين لا يمل من الحديث عنها وشدة تعلقه بها، وكان قلقا عليها كثيرا في حالة استشهاده.
وكان يردد دائما عند استشهاد أحد جنودنا عبارة «الله يكون بعون أطفاله»، كنت اقول له: ويكون الله في عون أمه وأبيه ومحبيه، فكان يعترض بامتعاض مرددا: لا، فالأم والاب هناك من يرعاهما، أما الأطفال فمصيرهم مجهول.
وكأنّ هذا الشعور الذي يختلج في صدره هو انذار مكتوم لما سيحصل لأبنته المسكينة، فقد استشهد الرجل في قصف مدفعي في قاطع الفاو، وبقت ارهاصات حديثه عن مصير ابنته تدور في مخيلتي وتضغط على نفسي بشدة، ولما كنت اعرف محل سكناه قادتني قدماي في أحد اجازاتي الدورية لبيته، وفي كل مرة اذهب الى هناك كنت ارى ابنته تعيش في كنف جدتها، امّا جدها فقد تزوج من امرأة ثانية بالمال الذي آل اليه من استشهاد ولده.
كنت أرى عيني الطفلة المتعبتين تتفرسان في وجهي، وكأنها تسألني متى يأتي أبي؟
اخرج من دارهم قاطعا عهدا على نفسي ألا أعود لزيارتهم، وخصوصا بعد أن علمت أن امها قد تركتها وتزوجت. لم تمض شهور حتى ماتت جدتها وانتقلت الطفلة إلى بيت خالها الذي كفلها بسبب ما يحصل عليه من راتب الشهيد.
وكنت قد التقيت خالها في إحدى زياراتي، وخرجنا سوية ودلني على داره عندما استأجرت سيارة أجرة وأوصلته في طريقي، وقد صدع رأسي بشكواه من حالة فقره الشديدة وكثرة عياله ومشاكل زوجته وسيطرتها عليه.
وهنا الطامة الكبرى إذ ذهبت الطفلة لتعيش وتخدم أسرة الخال في ظل زوجة خالها المتغطرسة.
بعد سنوات ومن دون تخطيط وجدت نفسي في محلة سكن الخال، وقررت أن أزوره لأرى حال الطفلة، وصعقت لما رأيتها عند دكان المحلة تشتري حاجات طلبتها زوجة الخال، والبنت قد كبرت قليلا ولها جديلة وقد تحلق حولها شلة من الصبيان المراهقين يتلمسون جسدها وهي تدفعهم.
لم الاحظ نفسي إلا وانا قد دخلت في معركة وبدون وعي مني، وقد اوجعت الصبيان ضرباً وركلاً مبرحاً، حتى صاح أحدهم وهو يهرب متكئا على إحدى ساقيه قاذفا بالسباب والشتائم المقذعة صارخا بأعلى صوته بأنه قد شاهدها مع فلان في وضع غير أخلاقي، انطبقت السماء على رأسي وانهمرت دموعي وانحبست أنفاسي كأنه اليوم الأول لاستشهاد صاحبي والد الفتاة، اخذت بيدها وذهبت لمنزل خالها، واشبعته كلاما قاسيا حتى خرجت زوجته اللعينة قائلة (إذا كلبك محترك عليها خذها ربيها انت) أسقطَ بيدي وأنا لاحول ولا قوة لي، إذ كنت عازبا في حينها. خرجت مطأطأ الرأس، وكأن جبلا سقط عليّ.
مرت السنوات وكنت لم ازل في دوامة حرب الثمانينات، بدأت اترصد أخبار المسكينة لقد زوّجوها وهي طفلة من رجل سبعيني لم يستطع أن يمارس معها العلاقة الشرعية لضعف في جسده وكان يضربها ضربا مبرحا بحجة أن الطفلة مقترنة بجني يمنع الشيخ العجوز من ممارسة العلاقة معها، ويرفض أن يطلقها إلا بعد استرجاع نقوده التي دفعها مهرا لزوجة الخال. لم انم تلك الليلة ومن شدة الإرهاق رأيت نفسي واقفا فوق جبل أصدر صوتا اوهمتني نفسي أنه صوت الله، فقلت له بتلعثم: لماذا يا ربي الا ترى الظلم الذي يقع على عبادك؟ أجابني الصوت بحنو بالغ، أن ما رأيته من ظلم هو شيء يسير بل أني أرى ظلما أشد منه بكثير ،ولكن كل هذا الظلم يرسخ في ذاكرة البشر وعند قدومهم إلي امسح كل ظلاماتهم من الذاكرة فتصبح هباءا ،ثم اغمرهم بالفرح والسعادة الأبدية وأسألهم هل رأيتم ظلما قط يأتي الجواب وعزتك وجلالك لم نر قط ظلما، أن دنياكم ومضة عابرة لاهية، وأنّ للصابرين على البلاء يوفّون أجورهم بغير حساب، امّا الظلَمة فخالدون في نار جهنم مع ظلمهم الذي اقترفوه، نزلت، في الحلم، من أعلى الجبل خجلا من قصور تفكيري، ولحقني الصوت ذاته: ولك من الثواب نصيب لأنك أوشكت أن تذهب بروحك حزناً وكمداً على المُعذبين.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"