03 Jan
03Jan

لما كان الإسلام قد حَشرها في ركن ضيق، وظل مُحكماً عليها الخناق طوال زهاء خمسة قرون مظلمة، وصَدَّ كل مساعيها المستميتة لفتح ثغرة تنفس خلال الحروب الصليبية؛ وكانت الكنيسة قد راكمت من عناصر السلطة والثروة والنفوذ ما يكفي ويزيد لمزاحمة أصحاب السلطان والثراء والجاه أنفسهم؛ وكانت كل مقدمات التنافس والصراع على المصالح الدنيوية فيما بين البابا وكهنوت الكنيسة ورجال الدين من جهة، وبين الملوك والأمراء ومسؤولي الحكم المدني في المقابل قد نضجت؛ بات انفجار البيت المسيحي من داخله مسألة وقت آتٍ لا محالة. في الواقع، لم يطل الزمن وانفجر بالفعل العالم المسيحي كله بعضه في بعض ضمن سلسلة من الحروب المروعة امتدت لنحو مئتي عام، رفع خلالها المتحاربون جميعاً راية الصليب.


على خلاف اليهودية والإسلام، قد تكونت المسيحية كدين على مسافة بعيدة من السلطة، بل في الحقيقة في معارضة وعداء معلنين معها. وقد استمرت هذه المرحلة من الاكتفاء والاستقلال الذاتي في وجه سلطة كانت في أغلب الأحيان معادية ومضطهدة لفترة كافية من الزمن لترسيخ كيان ذاتي مستقل لها كدين. وكانت المسيحية ستسلك مساراً تطورياً فريداً من نوعه من بين كل الأديان الإبراهيمية الشقيقة لو قُدِّرَ لها أن تسلك هذا الطريق المكتفي بذاته المستقل إلى آخره. لكنها في الواقع عادت أدراجها في مرحلة لاحقة لتتحد بالسلطة حين تبنتها الإمبراطورية الرومانية ديناً رسمياً لها- لتعود المسيحية إلى جوهرها الديني الإبراهيمي الفطري الذي يمزج بين السلطة والدين معاً. ومنذ هذه اللحظة كانت المسيحية قد وضعت أقدامها على الطريق الذي سيوصلها حتماً إلى تقاطع ثم صراع وجودي لابد منه مع الإسلام تحديداً، الذي يسلك الطريق ذاته نظراً لكونه قد ولد من رحم السلطة ذاتها. بيد أن فترة الكفاية والاستقلال التي قد عاشتها المسيحية في مطلع عمرها بمعزل عن السلطة سوف تفيدها فيما بعد أثناء التكيف مع التبعات المريرة لهزيمتها المذلة في أعقاب حقبة الحروب الدينية. وهي أيضاً التي سوف تساعدها على التطور والبقاء حية ومنتشرة في كل بقاع الدنيا حتى يومنا الحاضر.


إن كل شخص (طبيعي أو اعتباري) لابد أن يكون له وجود مستقل ومكتفي بذاته إلى الحد الذي يمكنه من تلبية احتياجاته الفطرية من خلال الاتصال بآخرين سواء من نفس نوعه أو خارجه، ومن بناء أشكال متعددة من العلاقات النفعية مع محيطه. ويمتلك كل شخص أو كائن خصائص تميزه عن سواه من الشخوص والكائنات. وينطبق القول نفسه على كل من السلطة والدين، بصفتهما الاعتبارية سواء كأشخاص أو هيئات أو مؤسسات...الخ. فبينما من خصائص السلطة امتلاك أدوات القوة والعنف وفرض قانونها بالإكراه إذا لم يُجدي النُصح، الدين طبائعه منافية لذلك ويميل أكثر نحو انتهاج أسلوب الاستمالة والإقناع والترهيب والترغيب وكسب قلوب الناس بالحب من دون اللجوء إلى وسائل العنف المادي المباشر. فإذا كان الناس يطيعون السلطة خوفاً من بطشها، إلا إنهم يمتثلون لتعاليم الدين أملاً في النجاة وحباً وطمعاً في حياة أفضل- ولو مؤجلة حتى حين. بل هم حتى أكثر استعداداً للتضحية بأنفسهم انتصاراً لدينهم، منهم للسلطة الحاكمة لهم. فإذا جاز التشبيه، السلطة في نظر الناس العاديين وحش مفترس ذو أنياب ومخالب حادة يتعين عليهم عدم الاحتكاك به وتوخي الحذر منه في كل الأوقات، بينما الدين شيء آخر ينام وسطهم على مخادعهم بين أحضانهم ويداعب أحلامهم وأمانيهم، يواسيهم ويخفف عنهم عذابات دنياهم- ومن ضمنها ما توقعه بحقهم السلطة؛ الدين يوفر لهم الملاذ والسلوى من بطش السلطة نفسها. بيد أن طبيعة الدين هذه المحببة لنفوس الناس والقريبة من قلوبهم تتبدل رأساً على عقب إذا ما تسربت فيها عناصر من السلطة. عندئذٍ تَنْبُت للدين أنياب ومخالب تخيفهم ولا يعودون بعد يأمنون على أنفسهم منه.


كذلك، الوجود المستقل بحد ذاته يغرس في كل كائن غريزة متجددة لا تشبع للنمو والتوسع لأقصى حد ممكن. ومعروف أن السلطة تلبي وازع هذه الغريزة الفطرية للنمو والتوسع من خلال استعمال وسائل القوة والعنف للتمدد داخل وخارج حدودها المكانية لأقصى ما تسمح به قدراتها. الدين- لأنه ذو وجود مستقل أيضاً أو هكذا ينبغي له أن يكون- هو مثل السلطة يسعى بغريزته إلى النمو والتوسع لأقصى ما يستطيع، لكن بوسائل مناقضة لتلك التي تستعملها السلطة لتحقيق الغاية نفسها. لذلك، حين تتسرب عناصر السلطة داخل الدين، وحين ينصح بالحسنى من دون طائل، لا يجد أمامه من سبيل آخر سوى اللجوء لوسائل السلطة التي قد تَشَبع بها- العنف.


لقد اشتعلت الحرائق عبر أوروبا لأن الدين هناك كان قد راكم من عناصر السلطة ما بات يشكل تهديداً مباشراً على السلطة ذاتها؛ أصبح البابا في روما يعتبر نفسه سلطة عليا فوق الملوك والأمراء في كل أرجاء العالم المسيحي؛ وتعاظم نفوذ الكنائس ورجال الدين عبر الأقطار الأوروبية لدرجة جعلتهم يرفضون الولاء للسلطات المحلية في ممالكهم ومقاطعاتهم بحجة أنهم مأمورين لسلطة البابا وحده. ولما كانت السلطة بطبيعتها في ذلك الزمان لا تقبل التجزئة، لكنها في واقع الحال مُجزئة ومتنازع عليها على هذا النحو، كان الانفجار آتياً لا محالة؛ ولما كانت السلطة بطبيعتها كذلك كائن قوامه القوة ويقتات على القهر والإخضاع، كانت نتيجة المواجهة محسومة سلفاً. انهزم البابا وكهنوته والموالون لهم شر هزيمة، وتم تطهير الدين المسيحي من معظم ما قد علق به شوائب السلطة منذ ارتباطه بها. لكن، رغم ذلك، بقيت المسيحية- في ميلاد جديد- ولم تنقرض مثل أديان كثيرة قد سبقتها. وهذا بفضل أنها كانت تملك وجوداً وكياناً مستقلاً لها من قبل ارتباطها بالسلطة. هكذا تمخض نحو قرنين من الحروب الضروس بين أقطاب السلطة المدنية من جهة والسلطة الكنسية في المقابل عبر القارة الأوروبية كلها عن ولادة أوروبا جديدة، بعد فض النزاع والاشتباك بين السلطة والدين. ونهضت من تحت أنقاض هذه الحروب الدينية الدول العلمانية الديمقراطية المتقدمة الحالية، القادرة على استيعاب والتعايش مع كل من السلطة والدين معاً- لكن في عيشة منفصلة ومستقلة لكل منهما بعيداً عن الآخر.


إن تقاطع الإسلام- ومن ثم صراعه الدموي- مع المسيحية إبان حقبة الحروب الصليبية لا يكشف سوى عن جزء فقط من الحقيقة حول أوجه الشبه والاختلاف بين هاتين الديانتين الإبراهيميتين. في الواقع، رغم التلاقي المرحلي خلال تلك الحقبة، هناك اختلاف جوهري يباعد بين المسيحية من جهة والإسلام من الجهة الأخرى. إذ بينما قد ولدت المسيحية بمعزل عن السلطة وفي معارضة لها وتحت اضطهاد منها، كانت ولادة الإسلام مناقضة كليتاً. الإسلام قد ولد من رحم السلطة ذاتها، وفُطِمَ بين أحضانها، ثم قضى بقية حياته الممتدة لأكثر من ألف عام حتى اليوم تحت عينها وينعم بحمايتها ودعمها وكفالتها له. في قول آخر، الإسلام- خلاف المسيحية- لم يشهد في أي من مراحل تطوره التاريخية قدراً معقولاً من النأي بالنفس والابتعاد عن السلطة حتى يُوجِد لنفسه كياناً مستقلاً وخاصاً به. بل لقد تشكل الإسلام ولا يزال من داخل رحم السلطة ذاتها، ومن ثم كان ولا يزال من دون هوية ذاتية مستقلة تفصله وتمايزه كدين بمنأى عن السلطة. لكن يبقى هناك استثناء.


ثمة اختلاف جوهري في مسار التطور التاريخي لكلا فرعي الإسلام الرئيسيين: الإسلام السني والإسلام الشيعي. فبينما قد قضى الإسلام السنى كل عمره متوحداً في وحدة عضوية مع السلطة الحاكمة، قضى الإسلام الشيعي في المقابل معظم عمره تقريباً في عداء ومواجهة مفتوحة ضد السلطة ومحاولات الهروب والتخفي منها، الأمر الذي قد أكسب المذهب الشيعي ديناً بالمعني الحقيقي يملك من الكفاية والاستقلالية الذاتية ما يسمح له بالعيش والبقاء وحده- مثل المسيحية- حتى من دون الحاجة للسلطة.


* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة