29 May
29May

إذا راقبنا الأوضاع الدولية القائمة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) وربما حتى منذ بداية الحرب الروسية - الأوكرانية، نستخلص أن المرحلة التي يقطعها الأمن الدولي الآن حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية وربما حتى بداية العام المقبل وتسلم إدارة جديدة، أو التجديد للإدارة نفسها في هذه المرحلة التي نشهدها قد تكون من أخطر المراحل على الصعيد الجيوسياسي والدبلوماسي وخصوصاً على صعيد الاحتمالات العسكرية والميدانية والإرهابية. وسنسعى في هذه المقالة إلى أن نضيء على بعض المجابهات التي يمكن أن تحصل بالمجتمع الدولي إلى أوضاع لم يشهدها ربما منذ الحرب العالمية الثانية أو في الأقل منذ نهاية الحرب الباردة.
ساحات كثيرة من الممكن أن تتحرك من سيئ إلى أسوأ بسبب عدم وجود مركز قرار دولي يهتم بالاستقرار والسلم والسلام بها، هذه الجبهات إن لم يتوافق حول مستقبلها وتعميق الاستقرار قد تتحول إلى ساحات انطلاق لحروب ومواجهات قد تهدد الأمن العالمي، لا سيما في مرحلة تسبق الانتخابات الأميركية، إذ إن الإدارة تتجه إلى التركيز فقط على السياسة الداخلية مع الإبقاء على بعض الاهتمام البيروقراطي الاستخباري بما يجري في العالم.
وعندما يتقلص اهتمام واشنطن بالملفات الدولية والإقليمية والحروب الجامدة والمعارك المستمرة، ما يجري عادة هو أن الأطراف الأكثر اهتماماً بالتوسع وحسم الحروب وإنجاز مشاريع إضعاف المجتمع الدولي، بخاصة الغرب في هذه المرحلة، تستفيد من جمود أو تمييع السياسة الخارجية الأميركية والتركيز على الانتخابات وعلى مشكلاتها وعلى نتائجها.
وبالتالي تمنع مراكز القرار في واشنطن عن حسم الملفات المتفجرة، وهذا يفتح الباب أمام قوى في روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران والقوى الإسلاموية، وغيرها من الأنظمة الديكتاتورية لتفكر في الأقل بما يمكن أن تنجزه في مرحله الغياب الأميركي للأشهر المقبلة.
فإذا كان هناك رئيس قوي وإدارة حازمة في واشنطن فإن ذلك لن يؤثر كثيراً في ما يزيد القوة، أما أن تكون الإدارة في الولايات المتحدة ضعيفة وحائرة ومترددة وغير قادرة على التركيز على ما يجب إنجازه دولياً، وهو الواقع الآن للأسف في الولايات المتحدة، فإن الأطراف الراديكالية في العالم ستحاول تنفيذ مشاريعها، والأضعف إقليمياً ودولياً قد يدفع الثمن.
اليوم في واشنطن هنالك إدارة ضعيفة وهنالك كونغرس مصمم على ضبط الأوضاع، ولكن ليس له السلطة بأن يتدخل تنفيذياً، بالتالي فإن مراجعة الملفات التي يمكن للأطراف الراديكالية الخارجية أن تستغلها لتحقيق شيء ما ليس له قدرة التنفيذ، إلا إذا كانت هنالك أطراف إقليمية قوية ومصممة ألا تسمح بانفلات كهذا حتى أن يستتب الأمر في واشنطن خلال يناير (كانون الثاني) المقبل.
الملف الأول والأخطر هو بالطبع الحرب في أوكرانيا، وقد لا يراه الرأي العام الدولي بعد اتجاه اهتماماته إلى الشرق الأوسط وحرب غزة والتبادل الصاروخي بين إيران وإسرائيل.
الخطر الأول: أوكرانيا
عودة انفجار الحرب بين روسيا وأوكرانيا قد تكون كارثية، فكنا اقتنعنا أن تلك الحرب التي بدأت في فبراير (شباط) 2022 أكدت نتائجها الأشهر خلال الستة الأولى أنه ليس بإمكان روسيا أن تحتل عاصمة أوكرانيا، وأن تكمل اجتياح كل تلك البلاد بسهولة.
أولاً لأن الجيش الأوكراني لديه قدرات دفاعية كبيرة قد تكبد الكرملين خسائر كبيرة، وثانياً لأن الناتو عندما وصلت القوات الروسية إلى العاصمة بات يستعد لمواجهة وأخذ قراراً بالتدخل والتصعيد إلى مواجهة بين جبارين. لذلك فإن موسكو قررت أن تسيطر على المناطق التي أرادتها منذ البداية، وهي الشرق والجنوب الأوكراني والشمال الشرقي من القرم حتى بحر أزوف.
اعتقدت القيادة الروسية أنها قادرة على الحفاظ على تلك المناطق التاريخية لها، وأن تتم مفاوضات مع غرب أوكرانيا في ما بعد. إلا أن السلطات الأوكرانية قررت أن تطلق حرب تحرير لاسترجاع مناطق دونيتس في الشرق وآخر شبر من أراضي الدولة الأوكرانية الحديثة بما فيها القرم.
أدى ذلك إلى قرار غربي أميركي تحت إدارة بايدن بأن يجهز الجيش الأوكراني بكل الحاجات العسكرية. وتم تحويل المليارات من الدولارات إلى حكومة كييف لتمكينها من التصدي للقصف الروسي، وليكون لها قدرة على أن تسترجع أراض خسرتها أمام الاجتياح الروسي، إلا أن ذلك لم يحصل.
وبالتالي فهنالك قناعة أخرى بأن الحكومة الأوكرانية لن تتمكن من أن تسترجع المناطق التي خسرتها في حرب 2022، وعليه ومنذ بداية 2023 لم يتمكن أحد الطرفين من أن يغيره، وهو الأمر الواقع على الأرض، أي أن روسيا لن تتقدم وأن أوكرانيا لن تسترجع.
استمر هذا الستاتيكو عامين ما بين 2023 إلى 2024، ولكن الدول الأوروبية والولايات المتحدة استمرت في إرسال المليارات والأسلحة إلى حكومة أوكرانيا. للأسف لم تتمكن قيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. من أن تجد إطاراً للتفاوض مع موسكو وحلفائها لإنهاء حرب أوكرانيا، هذا أدى إلى استطالة هذه الحرب من دون سبب وجيه.
العقوبات التي وضعت على روسيا، وهي مشروعة بالنسبة إلى الغرب، هدفها كان إيقاف التوسع الروسي. هذه العقوبات كان يجب على الأطراف أن تتفاوض عليها وأن يكون هدف هذا التفاوض وقف دائم لإطلاق النار وبدء المحادثات لإنهاء الحرب. إلا أن مجموعات المصالح في الغرب عامة وأميركا بشكل خاص قررت أن تستمر بدفع أوكرانيا إلى المواجهة بدل أن تقنعها أن أفضل خيار لها في الدفاع عن نفسها هو البدء بالمفاوضات مع روسيا، بينما الناتو يطور جيشها.
في المقابل كان هنالك طرح قومي روسي يسعى دائماً إلى دفع الكرملين للعودة للقتال والسيطرة على أوكرانيا وضمها، وهذا أيضاً كلام غير منطقي لأن الدولة الروسية بشكل عام اقتنعت بضرورة وقف إطلاق النار وبدء المفاوضات من خط الاتفاق عليه، وهو الخط الفاصل بين المناطق التي تتكلم الروسية وسائر أوكرانيا.
وإذ تدخل إدارة بايدن في حلقة الانتخابات وما بعدها وفي ظل الانقسامات القوية الأميركية، هناك أطراف داخل أوكرانيا وروسيا تسعيان إلى إعادة إشعال الحرب. كل له هدف خاص به. وهذا قد يكون خطراً جداً، إذا إن بعض الأصوات في الجزء الأوروبي للحلف الأطلسي بدأت تطالب بقصف عمق الأراضي الروسية. وإن حصل ذلك في وقت تدخل أميركا في انتخاباتها فهذا سيؤدي إلى الصدام بين الناتو وروسيا. ولا أحد يعرف كيف يمكن إيقاف تصعيد كهذا. مع وصول بداية عام 2025.
هذه الجبهة كان يجب الاهتمام بها من مجلس الأمن، وكان على إدارة بايدن أن تقنع حلفاءها بقبول مبدأ وقف إطلاق النار والتفاوض. سنرى خلال الأشهر المقبلة إذا كانت الأطراف الداخلية التي تريد استكمال الحرب قد تنجح بذلك أم لا.
الصين
الجبهة الثانية التي ممكن أن تنفجر وتكون خطرة جداً هي المناورات الصينية حول جزيرة تايوان، إن بيونغيانغ تقوم بمحادثات دبلوماسية مع واشنطن وغيرها من العواصم، وبالعمق تسعى إلى مد نفوذها إلى تايوان، ولكنها ليست بالضرورة تسعى إلى حرب مدمرة.
فالصين تعرف تماماً أن أية حرب تشعلها ستؤدي إلى اهتزاز الاقتصاد العالمي، ويمكن أن توسعها في شرق آسيا مع اليابان وكوريا الجنوبية وربما الفيليبين، ولكن الأطراف العسكرية داخل الصين تشجع القيادة السياسية على مباغتة العالم بعملية عاصفة في تايوان. إلا أن المشكل أن الصين الوطنية القديمة ليست سهلة الابتلاع، فالحرب إن اندلعت قد تطول بين الطرفين وتتوسع أيضاً.
وهنالك عوامل قد تدخل من دون حسبان، مثلاً أن تقصف كوريا الشمالية عدداً من دول المنطقة بصواريخها الباليستية، مما يلزم الصين بدعمها، ولكن قد تنفلت الأمور من حيث لن تتمكن الصين الشعبية من ضبطها. وهنا أيضاً فشلت إدارة بايدن في إيجاد إطار تفاهم للسنوات الثلاث الماضية لمنع التصعيد. هل يحصل الصدام أم لا، هذا أمر آخر، ولكن إن حصل في وقت تواجه واشنطن انتخاباتها سيكون له تأثير هائل.
الشرق الأوسط
الجبهة الثالثة هي بالطبع الشرق الأوسط بحروبه الخمس من غزة إلى اليمن الجنوبي إلى جنوب لبنان إلى سوريا والعراق، وربما إلى الأراضي الإيرانية.
وكما كتبنا سابقاً فإن طهران وعندما ترى أن أميركا منهمكة وأن حروباً أخرى بدأت قد تستمر في عملياتها بالمنطقة، أولاً للسيطرة الكاملة على ما نسميه مستعمراتها مثلاً أكراد العراق وأكراد سوريا، وسيطرة "حزب الله" على لبنان وإشعال الضفة الغربية، والاستمرار في حرب غزة إضافة إلى دفع الحوثيين إلى إقفال مضيق باب المندب.
هذه المواجهات التي بإمكان الجمهورية الإسلامية تفجيرها في وقت تنشغل أميركا بنفسها، هي أيضاً احتمالات ممكنة ومرتبطة بقدرة الجمهورية الإسلامية لإدارة خمس حروب، وأن تستفيد من احتمال اشتعال المواقف بين روسيا وأوكرانيا أو تصعيد الموقف بين الصين وتايوان.
وفي مناطق أخرى هناك احتمالات أن تقوم أزمات في الحقبة نفسها، كما في فنزويلا حيث قد يعلن النظام عملية عسكرية في جزء من جارته غيانا لكي يسيطر عليها. بعضهم ينظر أيضاً إلى الحدود المكسيكية - الأميركية إذ من المحتمل أن تقوم مجموعات راديكالية، بينها شرق أوسطية بعمليات عبر الحدود بين البلدين. وفي أفريقيا هناك ساحات كثيره قد تتحرك فيها القوى الراديكالية من السودان وتشاد والنيجر، وما بإمكان "بوكو حرام" أن تقوم به داخل نيجيريا.
وأخيراً لا ننسى أن هناك ساحة واسعة لتحرك القوى المتطرفة داخل الولايات المتحدة، إذ هنالك افتعال مواجهات داخل مئات من الجامعات والمدارس في الولايات الأميركية تذكرنا بالاحتجاجات التي حصلت في 2020، ولكنها الآن وصلت إلى مستوى أعلى من العنف يؤثر في الهيئة العامة للسياسات الخارجية والداخلية والانتخابات.
كل هذه الاحتمالات والسيناريوهات التي عرضناها ليس بالضرورة أن تنفجر، ولكن هناك احتمالاً أن يستفاد منها إذا كان الطرف الدولي المعادي الولايات المتحده اتخذ قراراً نهائياً بإضرام النار. أما الرد على ذلك فيأتي من سياسة حكيمة لإدارة بايدن، وتنسيق مع الكونغرس الأميركي لكي لا يصل الموقف الأميركي خلالها إلى المرحلة الدقيقة التي تبدأ في الصيف وتنتهي بداية العام المقبل.
تقييم كهذا ليس صعباً لأن كل هذه الجروح مفتوحة، ولكن من الصعب التكهن بمدى قدرة إدارة بايدن أن تستمر في عملها الدؤوب للدفاع عن الاستقرار، فما هو مستهدف الآن ليس فقط دول غربية ومعتدلة، ولكن الاستقرار يحتاج إلى تركيز استراتيجي وإلى وقت كاف، هذا الأخير بات شبه منعدم والاستقرار بات في مهب الريح.


نقلا عن اندبندنت عربية

الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة