06 Mar
06Mar

كما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭ ‬لكل‭ ‬َمن‭ ‬خدم‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬العراقي،‭ ‬أن‭ ‬وجبة‭ ‬الغداء‭(‬القصعة‭) ‬تصل‭ ‬بعد‭ ‬الساعة‭ ‬الواحدة‭ ‬ظهراً،‭ ‬محملة‭ ‬بقدور‭ ‬كبيرة‭ ‬مغطاة،‭ ‬تحملها‭ ‬عجلات‭ ‬الكاز‭ ‬66،‭ ‬وهذه‭ ‬العجلات‭ ‬غير‭ ‬مرتفعة‭ ‬مما‭ ‬يصعب‭ ‬استمكانها‭ ‬اثناء‭ ‬المرور‭ ‬بين‭ ‬القطعات‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬العمليات‭ ‬الحربية‭.‬
وكان‭ ‬لوعورة‭ ‬الطرق‭ ‬ينفك‭ ‬غطاء‭ ‬القدر‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يحوي‭ ‬الرز‭ ‬وهي‭ ‬مادة‭ ‬رئيسية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الجيش،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬انكشاف‭ ‬اغطية‭ ‬القدور‭ ‬هي‭ ‬ان‭ ‬الدروب‭ ‬كلها‭ ‬ترابية‭ ‬متعرجة،‭ ‬والعجلة‭ ‬تقطع‭ ‬مسير‭ ‬ساعتين‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬هدفها‭ ‬الأخير‭ ‬
‭ ‬وكنت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬مكلفاً‭ ‬بواجب‭ ‬مراقبة‭ ‬وتدقيق‭ ‬الطعام‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬الينا‭. ‬صعدت‭ ‬إلى‭ ‬عجلة‭ ‬الأرزاق،‭ ‬وهالني‭ ‬منظر‭ ‬قدر‭ ‬الرز‭ ‬الأبيض‭ ‬المغطى‭ ‬بطبقة‭ ‬سمكها‭ ‬اكثر‭ ‬من‭ ‬2‭ ‬انج‭ ‬لونها‭ ‬داكن‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬لون‭ ‬مادة‭ ‬الدارسيني‭ ‬المطحون‭. ‬تعجبتُ‭ ‬كيف‭ ‬تمّ‭ ‬صرف‭ ‬هذه‭ ‬الكمية‭ ‬من‭ ‬الدارسيني‭.‬
‭ ‬سألت‭ ‬الطباخ‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬توزيع‭ ‬الأرزاق‭ ‬وهو‭ ‬يمسك‭ ‬بالكرك‭:‬
‭ ‬هاي‭ ‬اش‭ ‬طابخين‭ ‬اليوم؟‭ ‬أجاب‭ ‬بتلقائية‭ ‬عادية‭: ‬تمن‭ ‬ومرك‭ ‬قرنابيط‭ .‬
وكما‭ ‬تعلمون‭ ‬ان‭ ‬رائحته‭ ‬تزكم‭ ‬الأنوف،‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬ومن‭ ‬اين‭ ‬لكم‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الدارسيني‭!!‬،أجاب‭: ‬أبو‭ ‬ليلى‭ ‬هذا‭ ‬مو‭ ‬دارسيني‭ ‬هذا‭ ‬تراب‭ ‬الوطن،‭ ‬غطاء‭ ‬القدر‭ ‬سقط‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬وعورة‭ ‬الطريق‭ ‬وانتشر‭ ‬تراب‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التمن،‭ ‬لاتخف‭ ‬سوف‭ ‬اوزع‭ ‬على‭ ‬الجنود‭ ‬التمن‭ ‬غير‭ ‬المخلوط‭ ‬بالتراب‭. ‬نزلت‭ ‬أردد‭ ‬لاحول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬إلا‭ ‬بالله‭ ‬العلي‭ ‬العظيم‭. ‬وأكل‭ ‬الجنود‭ ‬يومها‭ ‬تمنا‭ ‬معفرا‭ ‬بتراب‭ ‬الوطن‭ ‬الغالي،‭ ‬واكلت‭ ‬معهم‭ ‬قليلا‭ ‬،ورفضنا‭ ‬مركة‭ ‬القرنابيط‭ ‬كلنا‭.‬
اما‭ ‬العشاء‭ ‬فكل‭ ‬مجموعة‭ ‬تتكفل‭ ‬بواجب‭ ‬عشائها،‭ ‬وكان‭ ‬نصيبي‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬مجموعتي‭ ‬مع‭ ‬رئيس‭ ‬عرفاء‭ ‬الوحدة‭ ‬الذي‭ ‬تحت‭ ‬إمرته‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الجنود‭ ‬سلاحهم‭ ‬القزمة‭ ‬والكرك‭ ‬ويطلق‭ ‬عليهم‭ ‬جنود‭ ‬شغل،‭ ‬يتولون‭ ‬تحصين‭ ‬الملاجئ‭ ‬وإخلاء‭ ‬الشهداء‭ ‬والجرحى‭ ‬ونقل‭ ‬العتاد،‭ ‬واي‭ ‬عمل‭ ‬آخر‭ ‬طارئ‭.‬
‭ ‬وكان‭ ‬جنود‭ ‬الشغل‭ ‬يتولون‭ ‬تهيئة‭ ‬عشائنا‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬طبعا‭ ‬بتوجيهات‭ ‬ر‭.‬ع‭.‬الوحدة‭ ‬،وكانت‭ ‬لدينا‭ ‬علبة‭ ‬معجون‭ ‬زنة‭ ‬5كيلو‭ ‬فارغة‭ ‬تستخدم‭ ‬لسلق‭ ‬البطاطا‭ ‬والبيض،‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يتولى‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬ر‭.‬ع‭. ‬الوحدة‭ ‬،حيث‭ ‬يشارك‭ ‬الكل‭ ‬بالعشاء‭ ‬،وتتلخص‭ ‬مسؤوليتي‭ ‬بتحصيل‭ ‬اكبر‭ ‬كمية‭ ‬من‭ ‬الأرزاق‭ ‬حين‭ ‬يجري‭ ‬توزيعها‭ ‬صباحا‭ ‬مثل‭ ‬البيض‭ ‬والجبن‭ ‬والحليب‭ ‬والسكر‭ ‬والشاي‭ .‬اذ‭ ‬لايستطيع‭ ‬عريف‭ ‬الاعاشة‭ ‬أن‭ ‬يخالف‭ ‬لي‭ ‬أمراً‭.‬
‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬الغروب‭ ‬تبدأ‭ ‬فعاليات‭ ‬العدو‭ ‬بالرمي‭ ‬المدفعي،‭ ‬وتستغرق‭ ‬بين‭ ‬15إلى‭ ‬25دقيقة‭ ‬بشكل‭ ‬قصف‭ ‬ثقيل‭ ‬مركز،‭ ‬حينها‭ ‬كل‭ ‬الجنود‭ ‬يدخلون‭ ‬المواضع‭ ‬كحماية‭ ‬لأنفسهم،‭ ‬لأنّ‭ ‬القصف‭ ‬الثقيل‭ ‬لايمزح‭ ‬معه‭ ‬احد،‭ ‬وأثناء‭ ‬ذلك‭ ‬ينهمك‭ ‬الجنود‭ ‬بتحضير‭ ‬العشاء‭ ‬قبل‭ ‬خروج‭ ‬المجموعات‭ ‬إلى‭ “‬الحجابات‭” ‬الليلية‭.‬
‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬استمر‭ ‬القصف‭ ‬الثقيل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬ساعة،‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬انهارت‭ ‬قسم‭ ‬من‭ ‬الملاجئ‭ ‬على‭ ‬جنودها‭. ‬بعد‭ ‬القصف‭ ‬هرع‭ ‬جنود‭ ‬الشغل‭ ‬مع‭ ‬زعيمهم‭ ‬إلى‭ ‬الحفر‭ ‬لاستخراج‭ ‬الشهداء‭ ‬والجرحى،‭ ‬وعندها‭ ‬ناداني‭ ‬ر‭.‬ع‭.‬الوحدة‭:‬
‭: ‬ابو‭ ‬ليلى‭ ‬خلي‭ ‬بالك‭ ‬على‭ ‬قوطية‭ ‬المعجون‭ ‬اللي‭ ‬بيها‭ ‬عشانا‭.‬
‭ ‬وغادر‭ ‬مسرعاً،‭ ‬طبعا‭ ‬الفوانيس‭ ‬أطفئت‭ ‬بسبب‭ ‬عصف‭ ‬القصف،‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬علبة‭ ‬المعجون‭ ‬لم‭ ‬اتبين‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬الماء،‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬نسي‭ ‬عبد‭ ‬الحسين‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬البيض‭ ‬للسلق،‭ ‬أخذت‭ ‬نصف‭ ‬طبقة‭ ‬بيض‭ ‬وضعتها‭ ‬بالعلبة‭ ‬على‭ ‬النار،‭ ‬نادى‭ ‬الحماية‭: ‬ابو‭ ‬ليلى‭ ‬الآمر‭ ‬يريدك‭.‬
‭ ‬تركت‭ ‬العلبة‭ ‬على‭ ‬النار‭ ‬وصحت‭ ‬أحد‭ ‬المخابرين‭ ‬واوصيته‭ ‬دير‭ ‬بالك‭ ‬على‭ ‬عشانا،‭ ‬راح‭ ‬اطوّل‭.‬
‭ ‬جاء‭ ‬المسكين‭ ‬وبدون‭ ‬اضاءة‭ ‬تذوق‭ ‬الماء،‭ ‬وقالك‭ ‬لقد‭ ‬نسوا‭ ‬ان‭ ‬يضيفوا‭ ‬ملحا،‭ ‬ووضع‭ ‬ملعقة‭ ‬ملح‭ ‬كبيرة،‭ ‬تذوق‭ ‬المزيج‭ ‬احس‭ ‬انه‭ ‬يحتاج‭ ‬شيئاً،‭ ‬فوضع‭ ‬ملعقة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الكاري،‭ ‬وأضاف‭ ‬معجون‭ ‬الطماطم‭ ‬على‭ ‬المزيج،‭ ‬ولشدة‭ “‬ذكائه‭” ‬قلل‭ ‬من‭ ‬وهج‭ ‬النار،‭ ‬بسبب‭ ‬طلبه‭ ‬من‭ ‬مسؤوله‭ ‬للحضور‭. ‬انتهت‭ ‬واجباتنا‭ ‬باخلاء‭ ‬الجرحى‭ ‬والشهداء‭ ‬وإرسال‭ ‬موقف‭ ‬للمراجع،‭ ‬وجئنا‭ ‬لتناول‭ ‬العشاء،‭ ‬أشعلوا‭ ‬الفانوس‭ ‬وجاءوا‭ ‬بالقصعة،‭ ‬ثم‭ ‬سكبوا‭ ‬المزيج‭ ‬وياللهول‭ ‬اتضح‭ ‬أن‭ ‬عبد‭ ‬الحسين‭ ‬ر‭.‬ع‭.‬الوحدة‭ ‬حينما‭ ‬اوكل‭ ‬المهمة‭ ‬لي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬كمية‭ ‬من‭ ‬البطاطا‭ ‬غير‭ ‬المغسولة‭ ‬لسلقها،‭ ‬وأنا‭ ‬اضفت‭ ‬البيض،‭ ‬والمخابر‭ ‬اضاف‭ ‬المعجون‭ ‬والكاري‭ ‬والملح‭ ‬،ولا‭ ‬احد‭ ‬يدري‭ ‬بصاحبه‭ ‬ماذا‭ ‬فعل‭ ‬ومن‭ ‬اين‭ ‬بدأ،‭ ‬الجوع‭ ‬كان‭ ‬كافرا‭ ‬فبدأنا‭ ‬بتقشير‭ ‬البطاطا‭ ‬وهي‭ ‬بالمرك‭ ‬وتكسير‭ ‬قشور‭ ‬البيض،‭ ‬وغمس‭ ‬الصمون‭ ‬بمرك‭ ‬البطاطا‭ ‬والبيض‭ ‬والمعجون‭ ‬بطعم‭ ‬الكاري‭.‬
‭ ‬العجيب‭ ‬أن‭ ‬القصعة‭ ‬مسحت‭ ‬مسحا،‭ ‬وكانت‭ ‬اسوأ‭ ‬وجبه‭ ‬تناولتها‭ ‬بحياتي‭ ‬أنا‭ ‬ورفاق‭ ‬سلاحي،‭ ‬وبعضنا‭ ‬يلوم‭ ‬بعضا‭.‬
‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬صالحا‭ ‬للاستخدام‭ ‬البشري‭ ‬فقط‭ ‬هوالشاي،‭ ‬أشعلت‭ ‬السجائر‭ ‬مع‭ ‬اقداح‭ ‬الشاي‭ ‬الكبيرة‭ ‬وبدأ‭ ‬كويظم‭ ‬بغناء‭ ‬لالالا‭…‬لالا‭…‬لالالاااااا‭ ‬ومنها‭ ‬عشقت‭ ‬وتكلفت‭ ‬بطور‭ ‬المحمداوي‭… ‬الروح‭ ‬جيف‭ ‬اصبرت‭ ‬يومن‭ ‬جفا‭ ‬خلها‭ ‬يلي‭ ‬تجس‭ ‬النبض‭ ‬بالله‭ ‬عليك‭ ‬خلها‭.‬


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"



‭ ‬

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة