ليس غير الموت بمقدوره القضاء على ما جُبل عليه الانسان ، هناك من الطبائع لصيقة به ، ولا يمكن الفكاك منها مهما كانت قوة الآخرين الذين يناصبوها العداء ، او الذين يظنون بمستطاعهم تغيير ما هو راسخ في العقول والوجدان ، حتى وان تسلحوا بالدين او الايديولوجيا ، يمكن من خلالهما تهذيب هذه الطبائع وتشذيبها مما علق بها من شوائب ، وما يتعارض منها مع الأخلاق ، وذلك لن يكون الا بمخاطبة العقل والاقناع ، وبعكسه فالفشل الذريع مصير جميع تلك المحاولات ، ورأينا بام العين ولمسنا باليدين كيف انفجرت تلك الطبائع لتعبر عن نفسها بأضعاف مما كانت عليه عندما لجأ الرافضون لها الى استخدم العنف في قمعها. والتعبير الحركي عن المشاعر ، هكذا نسميه أكاديميا ، ويسميه الناس رقصا ، من بين تلك الطبائع ، عندما يحركون أجسادهم تعبيرا عما يجول في مكنوناتهم من مشاعر الفرح ، ولا يختلف في ذلك النساء عن الرجال والأطفال عن الكبار ، بل ومن الحيوانات من تعبر بحركاتها وذيولها عن فرحها . لقد تطور التعبير الحركي تاريخيا ، فأصبح فنا وله مهارات يمكن تعلمها واكتسابها ، وصارت للحركات دلالات يمكن أن يفهمها من يشترك بالثقافة مع من يمارسها . لقد رقص الانسان وغنى ورسم وعزف منذ بدء الخليقة ومازال ، والقمع في مجتمعاتنا يشتد تارة ويخف أخرى ، بالمقابل يختبأ الفن حينا ويكشف عن نفسه مرارا في مراوغة مستديمة للقمع ، وانتصر في جميع مراوغاته ، ليس لأنه قوي بطبيعته ، بل لأنه لصيق بالإنسان ، وما دام الانسان حيا فالفن باق ، وليس أمام مناوئيه سوى الاستسلام . وما دعاني لاتخاذ الرقص موضوعا لمقالي رقصات طلابية لافتة شاهدتها على موقع اليوتيوب . لا ننكر ان البعض أساء استخدام الفنون ، ووظفها بطريقة تسيء لأخلاق المجتمع ، ، ومنها ما شكلت انتهاكا صارخا للشرف ، فغازلت الغرائز ، وكشفت عن مفاتن الأجساد ، وحولت انسانية الأشخاص الى غرائز حيوانية ، لكن هذه الاساءات لا تعني خللا في الفنون ، بل في توظيفاتها ، لأن هذا البعض لم يدرك أهميتها ، وظنوا ان الفنون تسليع للأجساد وعرضها للبيع والشراء ، وهذا ما يتعارض مع قيمة الشرف التي تحتل أولى المراتب بين قيمنا ، بخاصة ان مجتمعنا يربط الشرف بجسد الانسان أكثر مما يربطه بسلوكيات فاحشة أخرى كالكذب والسرقة وعدم الاخلاص في العمل وخيانة الوطن . علينا أن نعرف ان للحياة ثلاثة أركان ، ولا يمكنها الاستقامة بغياب أحدهما ، وهل من شيء غير العلوم والآداب والفنون ، جميع البشر يشتركون في هذه الأركان ، ويختلفون في غيرها مما يمكن وصفه بالثانوي ، واذا كان الارتقاء المادي للحياة مرهون بالعلوم ، فان اعلاء قيمة الانسانية متعلقة بالآداب والفنون ، هي من تجعل الشخص انسانا ، وبذلك تلتقي الفنون مع الأديان في الهدف ، فالفنون تخفف من تشنجاته ، وتبث الاسترخاء فيه ، وتقضي على الانفعالات ، وتروّق المزاج ، والجهات التي تحارب الفنون لن تحصد مستقبلا سوى التطرف والمزاح الحاد. لذا ندعو الذين لا تروق لهم الفنون اعادة النظر بمفهومهم لهذا الركن المتين ، وليراجعوا سلوكهم اليومي ، ان كان بمقدورهم قضاء يوم واحد بلا فن ؟ ، أتمنى عليهم مغادرة اعتقادهم بالقمع سبيلا لمحاربة الفنون ، فهزيمتها من بين المستحيلات ، وانتهاج سبيل الارشاد والوعظ لتهذيب توظيفاتها ، حتى الارشاد والوعظ ما عاد مجديا ان كان مباشرا ، بل الفاعل منه ذاك الذي يستعين بالفنون ، فالتهذيب هو ما نحتاجه حقا ، ليس في الرقص فحسب ، بل وفي مختلف الفنون ، لا نريد للفن ان يحط من قيمة الانسان ، وانما لإعلاء شأنه بغرس النبيل من القيم في وجدانه. يفترض ألا نتحدث عن مثل هذه الموضوعات ، فقد صارت من البديهيات ، ومن أمد طويل غادرتها المجتمعات ، وان تكرار الحديث عنها يؤكد جانبا من تخلفنا ، فدعوا الناس ترقص يا أخوان.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"