25 Oct
25Oct

بعد المشوار الذي أمضيته على جرف النهر وبين البساتين الفوّاحة، عدتُ أدراجي إلى البيت، كنتُ أفكر بصديقي حسنين، وبغيابه الغريب، وبحادثة الكلب في قرية (أم البط)، لكنني لم أستسلم للحزن أو الإحباط، كان يعتمل في داخلي إصرار لا أعرف مصدره، يحثني على تجاوز العوائق التي تجابهني، ميزة قد أكون حصلت عليها من معايشتي لأبي وكيف كان يتعامل مع المصاعب التي لم تستطع أن تكسر إرادته، وأنا في طريق العودة إلى البيت أخذتُ أعلّلُ نفسي بعودة صديقي إلى الصف، لأنني كنتُ في غيابه أعيش ضعيفا في المدرسة، بل حتى في البيت وأنا بين أفراد عائلتي كنت مشغولا بغيابه وكان شعور الفقدان يفسد حياتي، فألوذ بالصمت ولا أشارك أخوتي وأبي وأمي الكلام ولا حتى الطعام، ومع ذلك لا يزال هناك أمل بعودته إلى الصف، هذا ما كنتُ أنتظر حدوثه.
والآن بعد عقود طويلة، لا زلتُ أتذكّر ذلك المعلم اللطيف الذي كنت ألجأ إليه كأنه أبي، ولا أتردد في نقل بعض معاناتي له، وحدث أن أخبرته بمصاعب واجهتها، وساعدني في حلّها، كان حريصا على مساعدتي ومساعدة الطلاب، كأننا عائلته، في طفولتي ودراستي الابتدائية حظيت بنماذج نادرة من المعلمين، ومنهم هذا المعلم القريب من روحي، كان يشغل مسؤولية معاون مدرسة الخزرجية التي درست فيها آنذاك، وهي موجودة إلى الآن في مكانها وتفتح أبوابها لطلاب الابتدائية الصغار، لكن هذا المعلم الذي ظلّ ساكنا في ذاكرتي غادرنا إلى رحاب السماء، كان أبًا لطلابه، فما أن يدخل علينا للصف حتى تنتشر خلطة عجيبة من الشعور بالأمن والسعادة والهدوء والاستقرار.
في اليوم التالي وأنا أدخل المدرسة محبطا بسبب فقدان صديقي حسنين، كنتُ ناسيا قلمي الرصاص في البيت، وهذا ما ضاعف من إحباطي وقلقي، وكما هو معروف في حينها، كان أهم شيء في التدريس الابتدائي هو القلم والدفتر، لأننا كنا نكتب كثيرا من واجباتنا داخل الصف وأثناء الدوام المدرسي، كنت قلقا خائفا من أن يحاسبني المعلم على نسياني لقلمي، كنت أرتجف من هذا الخطأ وزاد من ارتجافي برد الشتاء القارس، وحين مرّ المعلم من جانبي لاحظ ارتجاف جسدي، وهناك دمعة تقف عند زاوية عيني، قد تسقط في أية لحظة.
توقّف المعلم عن الشرح وهو يقف إلى جانبي وأنا كنت جالسا على مقعدي (رَحلتي الخشب)، شعرت بكف وأصابع دافئة حنونة تمشي على شعر رأسي، وتدفقت كلمات صادقة من فم المعلم، سألني لماذا ترتجف يا ولدي؟، لم أستطع الإجابة، كرّر سؤاله وأضاف: يبدو أنك بردان.
ونزع سترته الشتائية ووضعها فوق أكتافي، في هذه اللحظة أحسست بدمعتي تندلق من زاوية عيني وتجري فوق وجنتي، قال المعلم: هل البرد هو الذي أبكاك يا ابني؟، قلتُ: لا بل قلم الرصاص.. نسيته في البيت.
ترك المعلم سترته تغطي جسدي النحيف، وخرج من الصف وعاد بعشرات الأقلام الرصاص وقام بتوزيعها على جميع الطلاب مبتدئا بي، وكان هناك قلم جاف وحيد مع أقلام الرصاص، وحين استلم جميع الطلاب أقلامهم بقي القلم الجاف وحيدا في كف المعلم، ثم تقدّم إليَّ وسلمني قلم الجاف قائلا بحنان أب: هذا القلم الجاف لك.. خذه لكي يتوقف جسدك عن الارتجاف....
وضحك بقهقهة هادئة ليضحك معه طلاب الصف كلهم، بسعادة ولطف وهدوء.
وهكذا احتفظتُ بالقلم الجاف إلى أن أنهيت دراستي الابتدائية، فحتى حين انتهى حبره أعطيته لأمي وقلت لها احتفظي لي بهذا القلم، إنه هدية المعلّم الأب، وفعلتْ أمي ذلك بحرص وامتنان.
فكّرت أن أخبر معلمي هذا بالمشكلة التي أعاني منها وهي غياب صديقي حسنين، خصوصا أنه سأل ذات مرة عن سبب غيابه، أين هو، لماذا لم يعد للمدرسة، وكدتُ أخبره بتفاصيل جولتي في حي الرحمانية بحثا عن حسنين، لكنني أجَّلت ذلك حتى تحين الفرصة بين الدروس، الشيء الغريب الذي لاحظته في حينها، أن معظم الطلبة أو جميعهم تقريبا تناسوا وجود طالب كان يعيش معهم، ولم يعد أحد منهم يسأل عنه، كيف يمكن أن يُنسى البشر بهذه السرعة، كنت مستغربا من ذلك، لا أحد يسأل عنه، ولم أر وجها حزينا عليه، مع أن حسنين كان جميلا ولطيفا مع جميع طلاب الصف.
خرجتُ عند المساء من المدرسة عائدا إلى بيتنا المستأجَر في حي الإسكان، كانت خطواتي مثقلة بالحزن على الرغم من الموقف الأبوي الذي قام به معاون المدرسة في الصف، في العادة حين أعود من المدرسة كان الجوع ينهش معدتي، لكنني اليوم لا أشعر بالجوع بل بالحزن والانكسار، كنتُ محطّما حتى في الخطوات التي أخطوها نحو البيت، وما أن فتحتُ الباب ودخلت حتى صُدِمتُ بمشهد أمي وهي تنحني نحو الأرض والدم يقطرُ من هامتها، كان الظلام مهيمنا على الرغم من أننا في وضح النهار، ظلام ثقيل يلفّ جسد أمي، لأول مرة أرى مثل هذا الظلام الكثيف، ربما بصري هو الذي أخفق في رؤية ما حدث لأمي، وبعد حين ملأ اللون الأحمر جبينها وشعر رأسها، وكانت أختي زهرة تصبّ الماء الدافئ على رأسها أملا بانقطاع الدم، صرختُ باكيا، ماذا حدث يا أمي، فأجابت بهدوء غريب، لا شيء يا ولدي لقد انزلقت قدمي وسقطتُ على حافة الباب الحديد فشجّ رأسي، لكن كلامها لم يكن مقْنِعا.....
كنتُ أعرف بحدوث بعض المشادات بينها وبين أبي، لهذا خمّنتُ بأن الذي فعل ذلك أبي، لكنه لم يكن موجودا في البيت، دخل عمي محمد من خارج البيت، وسارع بتضميد رأس أمي، فتوقف الدم، ثم اختليتُ بأختي زهرة وسألتها عمّا حدث، واجهتني بالصمت المطبق كأن شفتيها مغلقتان إلى الأبد، لم تنبس ببنت شفة، وحين ألححتُ عليها، بكت بحرقة، وهربت إلى مكان منعزل في البيت، وتكوّرت على نفسها و واصلت نشيجها بصمت.
خيم جوّ ثقيل على البيت، كأننا نعيش في مأتم، تضاعفت الأحزان والتقت مع مصائب الفقدان، دم الأم ليس سهلا على أبنائها وبناتها حتى لو كان الفاعل هو الأب، لا أدري لماذا خمنتُ بأن من قام بضرب أمي على رأسها هو أبي، لم أفكر مطلقا بأنها سقطت على حافة الباب وحدث ما حدث، أيقنتُ بأن هذه الحكاية مفبركة، وأن الشق الذي حدث في رأس أمي بفعل فاعل وسوف أعرفه حتما، عند هذه اللحظة بدأ الظلام الكثيف يتفتت، ذلك الظلام الذي لا زلت أتذكّر طعمه جيدا، فالظلام له طعم أيضا، طعم لا يستطيع أن يتذوّقه إلا من عاش فيه.
بعد انجلاء الظلام تقربتُ كثيرا من وجه أمي، نظرتُ في عينيها مباشرة، كانتا شبه مغمضتين، فيهما تتلألأ بقايا دمع ساخن، في وجهها علامات واضحة للظلم الذي لحق بها، صحيح نحن كنّا صغارا، ولكن حين تتعرض الأم للأذى وللظلم لا يمكن أن نبقى صغارا ولا نفهم ما يدور حولنا، هكذا قلتُ لأمي وطلبتُ منها أن تخبرني بما حدث، ومع هذا هي فضَّلت الصمت، وظلّت تردّد بكلمات خفيضة مبعثرة مقهورة بأن قدمها زلَّت وأنها سقطت فجأة على حافة الباب وحدث لها ما حدث.
أحيانا لا يمكن للعيون أن تكذب، مهما حاول اللسان أن يغيّر الحقيقة، لقد تعرضت أمي للضرب، هذا ما تيقّنتُ منه، وسوف أعرف من فعل ذلك حتما.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة