23 Jan
23Jan

بدا‭ ‬الأمر‭ ‬مستحيلاً‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬، ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنف‭ ‬الوقت‭ ‬الطويل‭ ‬الذي‭ ‬صرفته‭ ‬مع‭ ‬نفسي‭ ‬اللائبة‭ ‬،‭ ‬كي‭ ‬أُثبت‭ ‬أنّ‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬شاهدتها‭ ‬البارحة‭ ‬وهي‭ ‬تتهادى‭ ‬بثقل‭ ‬مبين‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الخضار‭ ‬الكبير‭ ‬،‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬جارتي‭ ‬الحاجة‭ ‬جميلة‭ ‬أُم‭ ‬محمد‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬قبل‭ ‬ستة‭ ‬شهور‭ ‬محمولة‭ ‬بتابوت‭ ‬خشبي‭ ‬متهرىء‭ ‬يتكىء‭ ‬على‭ ‬أكتاف‭ ‬نائخة‭ ‬ووجوه‭ ‬خلت‭ ‬تماماً‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬دمع‭ ‬عزيز‭ .‬
كان‭ ‬الوقت‭ ‬فجراً‭ ‬شباطياً‭ ‬لابطاً‭ ‬على‭ ‬مواء‭ ‬قطط‭ ‬ضالة‭ ‬ونثيث‭ ‬زخ‭ ‬قليل‭ ‬،‭ ‬عندما‭ ‬استقر‭ ‬التابوت‭ ‬القديم‭ ‬ببطن‭ ‬شاحنة‭ ‬عتيقة‭ ‬بدت‭ ‬منسجمة‭ ‬مع‭ ‬تفاصيل‭ ‬المشهد‭ ‬الفقير‭ .‬
صعد‭ ‬السائق‭ ‬الجاف‭ ‬وإلى‭ ‬جانبه‭ ‬التصق‭ ‬رجل‭ ‬ستيني‭ ‬أشهب‭ ‬تتدلى‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬فمه‭ ‬الصغير‭ ‬بقيا‭ ‬أنفاس‭ ‬سيجارة‭ ‬،‭ ‬ويحمل‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬حدبة‭ ‬بارزة‭ ‬تكاد‭ ‬تحكي‭ ‬نصف‭ ‬الحكاية‭ ‬وربع‭ ‬الشك‭ .‬
في‭ ‬الخلف‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬أربعة‭ ‬شبان‭ ‬أحاطوا‭ ‬بالجنازة‭ ‬وأخفضوا‭ ‬رؤوسهم‭ ‬فوق‭ ‬المستطيل‭ ‬الميت‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنهم‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬حماية‭ ‬الجسد‭ ‬الضئيل‭ ‬من‭ ‬مطر‭ ‬بدأ‭ ‬يشتد‭ ‬ويرعد‭ ‬ويبرق‭ ‬مثل‭ ‬ذروة‭ ‬درامية‭ ‬صاعقة‭ ‬نائحة‭ ‬فوق‭ ‬دكة‭ ‬اللا‭ ‬معقول‭ .‬
بعد‭ ‬انفناء‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الشهور‭ ‬،‭ ‬فإن‭ ‬منظر‭ ‬قدم‭ ‬الحاجة‭ ‬جميلة‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬ملوّحاً‭ ‬من‭ ‬ذيل‭ ‬التابوت‭ ‬الرخيص‭ ‬،‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يركل‭ ‬رأسي‭ ‬ويرسم‭ ‬أمامي‭ ‬لوحة‭ ‬مرعبة‭ ‬شديدة‭ ‬الوضوح‭ ‬عن‭ ‬أربعة‭ ‬شباب‭ ‬قساة‭ ‬قاموا‭ ‬بخنق‭ ‬جارتي‭ ‬وكان‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مأرب‭ ‬وحيد‭ .‬
فكرت‭ ‬كثيراً‭ ‬بزيارة‭ ‬مركز‭ ‬شرطة‭ ‬الحي‭ ‬للإبلاغ‭ ‬عن‭ ‬جريمة‭ ‬محتملة‭ ‬وقعت‭ ‬برأس‭ ‬شباط‭ ‬،‭ ‬لكنني‭ ‬تراجعت‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬السخيفة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تجعلني‭ ‬أنزرع‭ ‬على‭ ‬سور‭ ‬قبر‭ ‬رميم‭ ‬،‭ ‬محاطاً‭ ‬بالشرطيين‭ ‬والشبان‭ ‬والرجل‭ ‬الأحدب‭ ‬الضئيل‭ ‬والأسئلة‭ ‬الثقيلة‭ ‬الغبية‭ .‬


الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة