تخلق الموسيقى سلاماً داخلياً، بين المرء ونفسه، يفيض الى المحيط الإنساني من حوله، فبالرغم من كونها ليست لغة، إنما إفتراض يخاطب حاسة السمع بأصوات غير محددة.. لا حروف تنتظم في كلمات، لكنها تحمل دلالات إيحائية نتفاعل معها مستجيبين لها كأداة تواصل. يتميز صوت الموسيقى عما نسمع من أصوات في الحياة.. هورنات السيارات، ونداءات الباعة على البضائع في بسطات تملأ فضاء السوق بروائح نستنشقها كما لو تصم الأذن الوسطى، و… الأحاديث الثنائية التي تجبر الآخرين على الأصغاء بصوت حاد ذي نبرات نافذة… وكثيرة هي الأصوات الإلزامية التي نسمعها مكرهين، تعبئنا بالنرفزة والغيظ والـ… لا رأي لمن لا يطاع، فـحتى الدخان وعادم السيارات يصيح أمراضاً تزعق في الرئتين! وعندما نصفو الى أنفسنا متوحدين بالموسيقى التي نحب؛ تنتشلنا مما شد أعصابنا معيدة الإسترخاء لأفكارنا كي تحلق في فضاءات ملائكية من أثير أنغام هانئة ، لا أعرف كيف، لكنني أشعر بالهناء عندما أستمع للموسيقى في ظروف أسرية أوفرها لعائلتي. لهذا تصوّر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، في كتابه “مولد التراجيديا”: الموسيقى إستدلال سابق على اللغة، ترتبط بالإرادة، وهي صورة بدائية من وجودنا ذاته. وبذلك يكون التعرف إلى الموسيقى، بالنسبة لنيتشه، والتعرّف بها إلى العالم، هو تعرّف إلى ذواتنا.. من جهة أخرى تاريخ الفلسفة حافل بتأملات حول الموسيقى، بدءاً من فيثاغورث الذي يُقال أن بداياته مع الرياضيات كانت عبر تأمل الموسيقى وإنتظامها، إلى أفلاطون، الذي قال: الموسيقى قانون أخلاقي، رابطاً جمالها بجمال تركيبها نفسه، حتى نصل إلى إيمان شوبنهاور بأن: الموسيقى أكثر إختراقاً لذواتنا من الفنون الأخرى، لأن كل الفنون تخاطب الظل الموجود في دواخلنا، وليس إنتهاءً بالفنانين العراقيين.. الراحل عارف محسن، وسالم عبد الكريم.. طال عمره، كلاهما أخذته بكلوريوس الهندسة الى ماجستير الرياضيات ثم دكتوراه الموسيقى، في تسلسل منطقي سديد.. فسلجياً (علم الوظائف) يبدأ تراتب إستلهام الموسيقى بإستجابة منطقة جذع الدماغ (Brain Stem Reflex) للمثيرات الصوتية التي تستدعي إستجابة مباشرة من الجهاز العصبي المركزي في جسد الإنسان، أو جسم الحيوان؛ فيتأثر بالموسيقى، التي تتكامل وظيفياً مع الجهاز الدوري للجسد.. القلب والأوعية الدموية، والجهاز التنفسي، ومناطق الحس المسؤولة عن الإنتباه والتأهب، والوعي بشكل عام، حتّى أن أي تلف في تلك المنطقة يعني تهديداً مباشراً لحياتناً.
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"