وسط الانسداد الحاصل في لبنان، يكثر الحديث عن الحوار وسط خلافات بشأن طبيعته: أهو حوار أم تشاور؟ بين جماعات أم ثنائي؟ لتعود البلاد إلى دوامة معرفة جنس الملائكة. يواكب هذه الملهاة حراك اللجنة الخماسية، وزحمة مبادرات وطروحات أميركية وفرنسية ومشتركة، يهدف بعضها إلى تهدئة الحدود الجنوبية عبر صفقات أو تفاهمات، وبعضها الآخر إلى معالجة معضلة انتخابات الرئاسة. مع زخم هذه المبادرات ومناخات التسوية في المنطقة التي لا بد أن تصل رياحها إلينا، الموضوع الذي بقي خارج نطاق البحث هو مستقبل دور «حزب الله» وموقفه الفعلي من هذه الطروحات، وكلها دوران في حلقة مفرغة دون انخراطه فيها. لنحاول دخول عالم افتراضي تكون فيه جبهة المعارضة اللبنانية متماسكة، ذات مصداقية وأوزان سياسية ثقيلة، وقررت أن تحاور الحزب. ما سيناريوهات الحلول التي يتوقع من الحزب الانخراط فيها من الأقصى تشدداً إلى الأكثر ليونة؟ وما المساحات التي يمكن للحزب أن يتحرك ضمنها، منطلقين من فرضيتين رئيسيتين هما علاقة الحزب العضوية بإيران، وعدم شن إسرائيل حرب على لبنان؟ بداية، لا بد من الأخذ في الحسبان أنه ستمر سنة كاملة قبل أن ترسو الأمور على ضفة في المنطقة وفي غزة خصوصاً. خلال هذه السنة، ستصعب التفاهمات والصفقات بانتظار معرفة كل فريق مصيره. الأميركي منشغل بالانتخابات الرئاسية وبما بدأه في الإقليم على أصعدة ثلاثة: وقف الحرب واليوم التالي في غزة، والعلاقات الاستراتيجية مع السعودية، ومتابعة التطبيع العربي - الإسرائيلي وتوسيعه نحو التسوية الشاملة. إسرائيل بحاجة إلى سنة بعد وقف الحرب لمعالجة تداعياتها ومشكلاتها الداخلية المتشابكة، والعلاقات مع الأميركيين ومع المجتمع الدولي. إيران قلقة على مصير «حماس» ومستقبلها في غزة وخارجها، بصماتها مبعثرة في أنحاء المنطقة، ملفها النووي لا يزال مفتوحاً، إضافة إلى شؤونها الداخلية المعقدة التي زادتها تعقيداً حادثة مقتل رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، واستحقاق مجهول التاريخ هو خلافة المرشد. على خلفية هذا المشهد، ما سيناريوهات مواقف «حزب الله» من دخوله في تسوية جدية ومستدامة مع شركائه اللبنانيين؟ السيناريو الأول هو قبول الحزب جراء ضغوط إقليمية ودولية بترتيبات عسكرية لا سيما في الجنوب اللبناني مقابل تسوية لبنانية تعيد النظر بتركيبة النظام السياسي، وتوزيع المناصب، لا تخلّ بقواعد حقوق الطوائف وتمثيلها في مختلف السلطات، لكنها تأخذ في الحسبان المتغيرات السياسية والديموغرافية في الداخل ومستجدات الإقليم حتى لو كانت هذه المتغيرات ليست كلها لصالح الراعي الإيراني وانعكاسات ذلك عليه. هذه التسوية تحتاج لكثير من الدراسات والفذلكات القانونية والدستورية، لكنها توفر للحزب الأمان والاطمئنان اللذين يريدهما؛ لأنها تشرّع سلاحه وقواه المسلحة بصيغة أو بأخرى، وتسمح له بالإمساك بالحد الأدنى الذي يقبل به لتوجيه السياسة الخارجية وعلاقات لبنان الدولية والسياسة الدفاعية. هذا السيناريو هو الأكثر تشدداً؛ لأنه يضرب الصيغة اللبنانية. السيناريو الثاني، هو تمسُّك «حزب الله» بوضعه الحالي بوصفه قوة سياسية - عسكرية بيدها القرارات الرئيسية أمنياً وسياسياً، وكل ما يتعلق بهوية لبنان ودوره الإقليمي والدولي، من دون أن يكتسب الصفة الرسمية الشرعية التي تحمله بوصفه مهيمنَ مسؤوليةٍ سياسيةٍ، ويسمح له الانخراط بتسويات أو تفاهمات على غرار ما حدث بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. هذا السيناريو هو الأكثر رجحاناً في حال بقيت أمور المنطقة على حالها. السيناريو الثالث، من غير المرجح أن يحدث قريباً؛ لأنه يحتاج للتوصل إلى تسوية شاملة في المنطقة تكون إيران من ضمنها، دون أن يحتم ذلك دخولها في سلام مع إسرائيل بل الاقتصار على تفاهمات على الأمن الإقليمي وأدوار الدول الفاعلة. هذا السيناريو يضمن لـ«حزب الله» حصة وازنة في الحياة السياسية نتيجة الوقائع التي حققها على الأرض والمتغيرات الحاصلة في لبنان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، مقابل معالجة ما لقضية السلاح بعد التسوية الإقليمية؛ لأنه من المرجح أيضاً أن تحتفظ إيران بمكتسباتها في إطار السلام الإقليمي؛ لأنه الأقدر على معالجة سلاح «حزب الله»؛ كون التهدئة تطول علاقة لبنان مع إسرائيل بالعودة إلى اتفاقية الهدنة لسنة 1949، أو اتفاقات جديدة مشابهة. الأهداف من هذا التمرين الافتراضي متعددة، الأول إدراك أن لا سبيل لحل معضلة «حزب الله» في لبنان من دون تسوية تطول إيران وأدوارها في المنطقة، والثاني هو تبيان أن كل الحراك الحادث في لبنان وحوله لا يتناول هذه المسألة إلا من زاوية أمن إسرائيل دون مراعاة الارتدادات على الداخل اللبناني، والثالث، لا مخارج متاحة دون حوار، لكن الحوار مع غياب التوازن السياسي لا فائدة مرجوة منه. والهدف الأخير هو استعراض الحدود القصوى والدنيا لما يمكن أن يقدمه الحزب، لعل المعارضة بدورها تستطيع تصوّر ما يمكن أن تقدمه للحزب ليعود إلى حضن الوطن إذا كان ذلك ممكناً.
*نقلا عن الشرق الأوسط
الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة انباء "النافذة"