24 Oct
24Oct

"غزوة النقب" غيرت المعايير وخلقت جواً يؤيد عملية مضادة داخل القطاع
بينما تتوسع أهوال الحرب الدموية بين إسرائيل و"حماس" من "غزوة النقب" في 7 أكتوبر (تشرين الأول) إلى القصف الإسرائيلي للقطاع وتبادل الصواريخ بين الأطراف والخسائر البشرية المتصاعدة، وفيما يصطدم مؤيدو الطرفين ببعضهم بعضاً في عواصم العالم ويجهد المعسكران الإسرائيلي والإيراني في المنطقة لتنفيذ استراتيجياتهما المتواجهة، وبينما تبحث واشنطن وشركاؤها العرب عن سيناريوهات الحلول الممكنة وقد باتت سيناريوهات الحروب على فوهة البركان الكبير في خضم العاصفة الهادرة، ثمة تصور معين يناقش في أروقة واشنطن الضيقة لعله يغلق ملف الحرب الآتية، ولكن السؤال هو حول ما إذا كانت تطورات ساحة غزة قد تجرف حتى المشروع المتداول... لنستعرضه وإن لم يكتب له النجاح.
في جذور المشروع
في 2009 طرحت مشروعاً كمدير لمشروع الإرهاب المستقبلي (Future Terrorism Project) في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن (FDD)، وما جاء فيه ليس مغايراً للنقاشات الجارية الآن في عواصم عدة بعد 14 عاماً. وقد طرح مشروع 2009 الذي عرض على المجموعة النيابية لمكافحة الإرهاب في الكونغرس (Anti Terrorism Caucus) 10 نقاط تتلخص كما يلي: بهدف إنهاء حالة الصراع في قطاع غزة، وفصل الطرفين المتقاتلين حماية للمدنيين، نقترح تنظيم قوة دولية تحت مظلة الأمم المتحدة ونشرها في كامل قطاع غزة لتحمي السكان وتمنع المعارك العسكرية، وربما الأهم على المدى الأبعد إطلاق عملية دعم اقتصادي للفلسطينيين بعد انتخابات جديدة تنظمها الأمم المتحدة بعيداً من تأثير الميليشيات المحلية.
هذا الكلام الذي خرج منذ 14 عاماً لم يذهب بعيداً عملياً، لكنه تنقل بين مراكز الأبحاث وروجع في بعض مكاتب الكونغرس، وقد ناقشته مع محللين في الاستخبارات. طروحات كهذه قبل ما يسمى "الربيع العربي" وفي خضم حربي أفغانستان والعراق لم تطرح على بساط البحث لأعوام، لا سيما أن هناك ثلاث ديناميكيات كانت تتسابق حول الموقف الإقليمي العام. موقف إيراني "حماساوي" يعارض أية قوة أخرى في القطاع، موقف عربي عام يسعى إلى حل شامل للقضية الفلسطينية، وموقف إسرائيلي لا يثق في "حماس" وحليفتها في طهران، لذا فالفكرة استمرت في التداول بأشكال عدة وفي أماكن كثيرة، لكنها استمرت في الإطار النظري والأكاديمي، وجرت الإشارة إليها في برامج القنوات ومراكز الأبحاث، وحتى في الأوساط الفلسطينية والإسرائيلية.
قوة سلام لغزة
أعيد طرح القوة الدولية للسلام في فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الرئاسية، ولكن في إطارين متوازيين، الأول بعد قمة الرياض التي حضرها الرئيس الأميركي، وشجع العرب على مواجهة الإرهاب وعزل المنظمات الإرهابية والتقدم باتجاه السلام في المنطقة. وقد شجع الموقف الأميركي الجديد القيادات العربية والإسلامية لمواجهة الأنظمة والتنظيمات المتطرفة والإرهابية في المنطقة، وقد تبلور موقف جديد لدى بعض العرب بأن إطلاق قوة عربية - أميركية مشتركة قد تصلح لاستعمالها كفاصل بين إسرائيل وغزة، وللإشراف على قوة فلسطينية جديدة في الضفة والقطاع، ولكن على أساس اتفاق جديد لحل مسألة "الأراضي الفلسطينية"، أي عملياً لما سيتحول إلى دولة للفلسطينيين.
إلا أن إدارة ترمب، في نظر العرب، تسرعت باتخاذ خطوات دبلوماسية قوية لصالح إسرائيل كالاعتراف بالقدس عاصمة لها، وضم الجولان للسيادة الإسرائيلية، مما يضع ضغطاً داخلياً على العواصم العربية بحسب تقديرها. ووقع الاتفاق الإبراهيمي بين إسرائيل ودول عربية عدة كخطوة متقدمة باتجاه سلام حقيقي، واتفقت الأطراف على العودة إلى طاولة المفاوضات للبحث في "ملف الأراضي". وكان الطرف العربي الإقليمي قد زاد تفاؤله في صيف 2020 عندما نجحت الإمارات في الضغط على إسرائيل كي لا تشرع مزيداً من الاستيطان على طول نهر الأردن، مقابل التوقيع على الوثيقة الأبراهيمية، مما شجع التحالف العربي و"الأبراهيميون" بينهم من إمكانية رؤية تنازلات أخرى من الإسرائيليين لقاء توسيع المعاهدة، بخاصة إذا أشرفت السعودية على إنجازها وإدخال الفلسطينيين المعتدلين فيها. وساد الاعتقاد بأن فترة ثانية لترمب ستشهد حلاً شاملاً يحوي خطة أمنية ثابتة في غزة، من ثم تنظيم قوة عربية غربية للانتشار في القطاع وتدريب الشرطة الفلسطينية.
قوة فرض السلام
إلا أن تغيير السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة بدأ بسحب الحوثيين من لائحة الإرهاب والانسحاب من أفغانستان والتنسيق مع "طالبان" في 2021، والعودة إلى الاتفاق النووي وتحويل المليارات إلى طهران، أدى إلى التباعد مع الشركاء العرب، ومن ثم فتح ثغرة أمام الميليشيات التي تؤيدها طهران، ومن بينها "حماس"، حاكمة غزة. فتراجعت فرص تقدم "الجبهة الأبراهيمية" إلى الأمام على رغم دخول المغرب فيها، واستأسدت المنظومة الإيرانية في المنطقة، فسقطت احتمالات عقد صفقة جديدة، واختفى مشروع القوة الدولية للمحافظة على الأمن في غزة. فالمحور رفض قطعاً حتى بعودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، فكيف بقوة دولية؟
ولكن "غزوة النقب" غيرت المعايير، وربما قلبتها، إذ إن الصدمة العميقة التي أحدثتها العملية لدى الرأي العام الإسرائيلي والأميركي والأوروبي خلقت جواً يؤيد عملية مضادة داخل غزة، لكن صور الضحايا الفلسطينيين دفعت هي أيضاً بالرأي العام العربي والإسلامي لتجديد التأييد للقضية الفلسطينية، بغض النظر عما إذا كانت "حماس" "إرهابية" أم لا. هذه المعادلة التصاعدية يبدو أنها ذاهبة إلى أم الصدامات بين إسرائيل و"حماس" حتى النهاية، وربما قد تتطور الحرب إلى مواجهة مع "حزب الله" وإيران نفسها. ومما يمكن انتظاره أن حرباً طاحنة للسيطرة على غزة سينتج منها خسائر مدنية كبيرة داخل القطاع وإصابات متعددة داخل إسرائيل، لذا فالمنطق الإنساني في حد ذاته يلزم تدخلاً إقليمياً دولياً لوقف الحرب. فلا إسرائيل ستوقف حملتها على "حماس" ولا "حماس" ستوقف هجماتها على "الكيان". حرب مدمرة جارفة لن توقفها قرارات وقف إطلاق نار لمجلس أمن مشلول، ولا تظاهرات مع أو ضد أي طرف. ما سيضع حداً لها هو قوة عربية - دولية تنطلق من سيناء لتتسلم أمن غزة وتحمي سكانها، وتنتشر على حدودها مع إسرائيل وتتسلم مطارها ومرافئها وتحيي إداراتها، وتأتي بالمساعدات الإنسانية إليها وتؤهل سلطة فلسطينية عادلة فيها وتسمح بتعدديتها وتنهي الحرب إلى الأبد من طريق إقامة دولة فلسطينية طبيعية مستقرة ينعم أهلها بالطمأنينة وشبابها بالأمل والفرح وتعود إلى التناغم والتبادل مع العالم العربي والعالم أجمع. فتخرج إسرائيل من أجوائها وزواريبها وتطمئن على سلامة مواطنيها وتطمئن غزة عن عائلاتها.
غزة في حاجة إلى قوة فرض السلام، قبل أن تدمرها الحرب الكارثية... فهل يسبق السلام الحرب الهادرة؟ أم أن العالم سيشهد ما لا يريد أن يشهده؟
سنكتب عن القوة العربية الدولية للسلام قريباً.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة