02 Mar
02Mar

قبل نصف قرن، والعالم منقسم بين "جبّارين"، أميركا الإمبريالية والاتحاد السوفييتي، "صديق الشعوب"، والسوفييت هم أسلاف روسيا اليوم، وأدوارهما وقتها لا يحتملان التأويل: من جهة، الأميركيون ورَثة الاستعمار الأوروبي في شرق العالم وجنوبه، يحوكون المؤامرات والانقلابات والصفقات ضد الشعوب التوّاقة الى الاستقلال. علاقتهم عضوية، استراتيجية، مع أعتى الأنظمة الاستيطانية الديكتاتورية والعنصرية، مثل إسرائيل وجنوب أفريقيا وعسكر أميركا اللاتينية... وآسيا حيث يخوضون حروباً مباشرة ضد فيتنام التي أشعلت العالم بجرائمهم. ومن جهة أخرى، اتحاد سوفييتي يمدّ كل الحركات المعادية للأميركيين بالسلاح. وفي فيتنام تحديداً، كُرِّس الاتحاد السوفييتي "صديقاً للشعوب" التي كانت تسمّى جغرافيتها، وقتها أيضاً، "العالم الثالث". وغير فيتنام من مناطق في ذاك العالم: مصر الناصرية، الجزائر المقاتلة من أجل استقلالها عن فرنسا، والهند مثلها في استقلالها عن بريطانيا، أو كوبا بفيديل كاسترو الذي صار شيوعياً بعد إسقاطه جيش باتيستا... إلى ما هنالك من قضايا وشعوب. باختصار، قبل خمسين عاماً، كان العالم منقسماً بين أشرار واضحي المرجعية والخطاب، وأخيار يناهضونهم بقوة بالسلاح، بالمحاور والأقطاب، بالديبلوماسية وبالحشد الإيديولوجي.
الآن، مع الحرب الأوكرانية، انقلبت الآية: روسيا، وريثة السوفييت، توّجت انقلابها على "خطّ الشعوب"، وخرجت على أوكرانيا بطموحاتها الإمبراطورية الإمبريالية التوسّعية. وعلى درجة الشراسة نفسها التي كانت للإمبرياليين المعاصرِين، أميركا وأوروبا، في مشوارهم الطويل للهيمنة على "العالم الثالث". فيما تبدو أميركا، في الوقت نفسه، قائدة الشعوب نحو استقلالها وسيادتها، تسندها ميدانياً وعسكرياً أوروبا بكل ما أوتيت من طاقات. والاثنتان، أميركا وأوروبا، تخوضان عن حق معركة الدفاع عن وجودهما بالدفاع عن أوكرانيا واحترام إرادة شعبها بالتخلص من أسر الروس، ورَثة السوفييت، والانضمام إلى أوروبا.
إنها معركة دفاع الشعب الأوكراني عن نفسه، ضد غازٍ لبلاده، ينقضّ عليه بشراسة من يستعجل تحطيمه وإرغامه على إبرام إتفاقية إذعان وولاء لسلطة نظامه. إنها معركة حرية شعب واستقلاله وحريته إذن، لا تختلف عن التي خاضتها قبله شعوب أخرى أيام "الجبّارين"، السوفييتي والأميركي. ومع ذلك، لا تحظى قضية الشعب الأوكراني بتأييد شامل، لا من الشعوب التي عانت في الماضي، أو ما زالت تعاني من هيمنة الغرب على مقدّراتها ومصيرها، وتحتفظ ذاكرتها تأييد الروس لها، ولا من الحكّام الذين يدوْزنون خطابهم بماضي الإمبريالية والاستعمار الغربيَّين، فيستثمرونه خدمة لعروشهم، ولا حتى غالبية الأحزاب اليسارية التي ترفض الالتحاق بالجهود لتحرير أوكرانيا، عملاً بدوغما أولوية العداء للأميركيين.
فكانت "مفاجأة" الغرب "الكبرى"، وخيبته مما يسمّيه واحد منهم "الجنوبَ الشامل"، ويعرّفه بالبلدان التي ترفض أن تأخذ موقفاً واضحاً من الغزو الروسي لأوكرانيا. وما "يدهشه" في الأمر، أن تأييد أوكرانيا أمر بديهي، لأنها "مثال كيميائي صافٍ لاعتداء بلد يمتلك أسلحة متفوّقة على بلد مجاور مسالم"، أو تلك الحملة ضد الأحزاب اليسارية الأوروبية، على المنابر الغربية، وبعضها يحمل عنواناً طويلاً مفيداً، مثل: "الحرب في أوكرانيا تُرغم اليسار على اتخاذ القرار. إما يستمر في مواقفه (المراوِغة في أوكرانيا) أو أنه سيتنكّر لتاريخه في مكافحة الفاشية، وهو تاريخ مجيد". ويختم بأن ليس مسموحاً لليسار أن يبقى على "جبْنه والتباساته".
ولكن، ثمّة لكن دائماً... كما انقلبت المواقف المشرّفة، وصارت الإمبريالية التي لم نتخلّص منها بعد في وضع من يستجدي التيارات والشعوب والحكّام لتأييد جهودها من أجل أوكرانيا حرّة... كان الاتحاد السوفييتي في عزّ ريادته التحرّرية، يعاني من عُطب إمبراطوري إمبريالي، لم نكن منْتبهين له، ولم يكن العالم كله منْتبهاً له، في خضم الانقسام الصارخ بين معسكر الخير، السوفييتي، ومعسكر الشرّ، الغرب الإمبريالي. والعُطب أن الاتحاد السوفييتي كان هو أيضاً، كما هو الغرب اليوم، يخوض حروباً ضد التحرّر، يستعمر، يستوطن، ويبني مداراته. من الإرث القيصري المباشر، أي الجمهوريات الأوروبية والآسيوية الملاصقة له: 15 دولة بقيادة روسية، منصهرة في كيان سوفييتي واحد، من بينها طبعاً أوكرانيا، وتركمنستان، وأستونيا، وأذربيجان، وأوزبكستان، إلخ.
ليس هذا وحسب، بل كانت هناك الدول والشعوب الدائرة في فلَك السوفييت، ثمانية دولة أوروبية شرقية، منها ألبانيا وألمانيا (الشرقية) هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، إلخ. والمعروف الآن، ولم يكن ذائعاً يومها، أن هنغاريا تمرّدت عام 1956 على الاتحاد السوفييتي، وطالبت باستقلالها في انتفاضة شعبية. لكن الجيش السوفييتي اجتاحها بأثمانٍ عالية، وأعاد هنغاريا إلى حظيرته. الأمر نفسه حصل بعد سنوات مع تشيكوسلوفاكيا عام 1968 عندما هاجمها ربع مليون جندي سوفييتي، بعدما شهدت انتفاضة استقلالية مماثلة. أي فيما كان الاتحاد السوفييتي يدعم شعوباً بعيدة من أجل استقلالها، كان ممْسكاً بشعوب أخرى، قريبة، بقوة النار، والأيديولوجيا التي تقول بـ"حرية الشعوب"... ولا نحسب هنا حساب الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو، والخاضعة لقراراتها بخصوص بلدانها. وتأطير هذه الأحزاب عبر مؤسّسة الكومنترن الأممية الصارمة.
الأمر نفسه يحدث مع الغرب الآن. فيما هو يخوض، بالمال والسلاح واللوجستيك، حرب دعم استقلال أوكرانيا واستقرارها وحرّيتها، لم يتخلص من رواسبه الإمبريالية، ولا صحّحها، بل هو يجدّدها حين يكون قادراً على غريمته من هذه البلدان أو تلك. خذْ مثلاً حياً ومباشراً، يخصّ منطقتنا. إسرائيل، التي وُلدت على أنقاض بلدٍ بأكمله، فلسطين، لم تقلق يوماً من الدعم الغربي لها. منذ ولادتها. وكان طبيعياً، أيام الحرب الباردة، أن أميركا الإمبريالية تدعمها، والسوفييت أصدقاء الشعوب يدعمون الفلسطينيين. لكن هذه العلاقة بين إسرائيل وأميركا تحوّلت إلى مفارقة بالغة: ففي وقتٍ ترفع فيه أميركا راية حرية الشعوب واستقلالها واحترام القوانين الدولية، وتضع قلبها وسلاحها وتحثّ حلفاءها الأوروبيين على المزيد... ها هي تتلعثم، كما يتلعثم حلفاؤها الأوروبيون بخصوص فلسطين.
انظر فقط إلى ما قالته، بلطف بالغ، عن الحملة الدموية التي قادها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، مدعوماً بالمستوطنين، ضمن سياسة التوسّع الصريح والسريع التي تقودها حكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة. كيف كانت ردّة فعل الغرب عليها، هي التي تدعمها منذ ثلاثة أرباع القرن، وتخوض، في الآن عينه، حرباً في أوكرانيا، ترسل السلاح، تموّل، تدرّب... تحت راية حقّ الشعوب بتقرير مصيرها؟
الأميركيون، بلسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس: إن بلاده "قلقة" للغاية من مستويات العنف في إسرائيل والضفة الغربية، إنها تخشى أن تؤدّي "مداهمة" شنتها القوات الإسرائيلية هناك إلى انتكاسة الجهود المبذولة لاستعادة "الهدوء"، وإنها تتفهم "المخاوف الأمنية" لإسرائيل. أما الاتحاد الأوروبي، فعبّر، في بيان له، عن "قلقه" العميق نفسه، وتمنى استعادة "الهدوء"، وأسِف لـ"وفاة" (وليس لـ"مقتل") المدنيين، فضلاً عن ضرورة "احترام" القانون الدولي، وأن يكون استخدام القوة "متناسباً". وكأن الاثنين، أوروبيين وأميركيين، من خرّيجي مدرسة الأم تيريزا...
تلك هي نقطة ضعف حلفاء الحرب الغربيين في أوكرانيا. إنها دول لا تستطيع أن تحشُد الشعوب التواقة هي الأخرى للحرية. ولكن كونها شرّاً لا يلغي أنها قد تحمل خيراً في موضع آخر. تماماً كما كان الاتحاد السوفييتي في عزّ "صداقته" للشعوب... ولكن الفرق أننا، وقتها، لم نكن نعلم.

* ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي صاحبها *

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة